فيلم «أزرق القفطان» لمريم التوزاني حياكة المعنى المتعدد للحب!

  • يسترعي انتباهنا، في فيلم “أزرق القفطان”« لمريم التوزاني، منذ الوهلة الأولى، مفهوم »الحياكة« كإطار ناظم لتسلسل الحكاية، وتحوّلات العصر، ويزداد هذا المفهوم ارتكازا حين ننتهي إلى أن المخرجة تحيك أمامنا، وبمهارة شديدة وتمهل مفرط، »قفطانا« من الحب. فليس القفطان في الحكاية إلا ذلك الشعور الأصيل الذي لا يفنى أمام الزمن. مفهوم عابر للموت، وللجسد، وللعلاقات المقولبة التي تؤطرها »الأنماط العليا« و«الخصائص الأساسية« لتفكيرنا الجسدي في الحب.
    الفيلم يحكي قصة حليم (صالح بكري) ومينة (لبنى أزابال)، وهما زوجان يديران متجرا لحياكة القفطان المغربي في مدينة سلا، ثم يلتحق بهما يوسف (أيوب المسيوي)، الشاب المتفاني والشغوف بالحياكة الذي يبحث بدأب عن تعلم أسرار المهنة، وعن الإتقان.
    نتابع، خلال هذا الفيلم، تنامي محكيات صغرى داخل الحكاية الإطار. فمثلما يحاك القفطان من عناصر مختلفة، تنمو الحكاية من خلال محكيات مختلفة (محكي حليم ومينة؛ محكي القفطان؛ محكي حليم ويوسف). فعلى مهل، نغوص في أعماق أرواح الشخصيات الثلاث. فنحن أمام شخصيات تعيش هشاشتها في سياق قمعي مغلق ومقولب. غير أنها مع ذلك قوية بما تحمله داخلها (الحب). فمينة رغم مرضها وتآكلها التدريجي، امرأة صلبة (تعاملها مع ابتزاز الزبائن؛ وقوفها في وجه الشرطة؛ تعاملها الصامت مع مثلية زوجها حليم)، بدت لنا، في كل مراحل الفيلم، غير قابلة للتدمير (الاستمتاع بالموسيقى؛ الرقص؛ الأكل الشهي (الرفيسة)؛ الالتذاذ باليوسفي (الماندرين)..)، مما يجعل الحكاية، في مساراتها الثلاثة، تتطور عكسيا نحو الانفراج العابر للموت. لم ينتصر المرض، ولم تنتصر الغيرة، ولم ينتصر المجتمع الغارق في الكلام والدخان والكرة (مجتمع المقهى). بل انتصر القفطان، وانتصر الحمّام (فضاء الطهارة والاسترخاء).
    لقد قدمت لنا مريم التوزاني صورة ظلية عميقة للحب، وشعورا رفيعا ومرتجفا بالاختلاف، وإحساسا صامتا بالألم، وإصرارا، بغض النظر عن العقبات، على بذل كل شيء من أجل تكريس الحب. فليس هناك شيء يستحق القفطان التحفة إلا الحب الذي تجسده مينة، حتى في أشد لحظات ضعفه، حتى وهو يتهم الحب البديل بالسرقة (سرقة الثوب الوردي). ألم تخاطب مينة حليما في واحدة من أقوى لحظات الفيلم: »ما تخافش من الحب !«. إنه الحب الذي يحرر، ويتفهم، ويحرض على الارتماء في الزرقة في كل الظروف. إنه نبل المشاعر حين يواجه نفسه في دموع الآخر، وفي آلامه، وفي وجوه الحب الأخرى. أليست للحب وجوه كثيرة؟
    لقد منحت مينة، المرأة التي استحق جسدها القفطان بدل الكفن، لحليم فرصة الاستمتاع بالحب (يا الله سيرو للحمام، أنا خليوني بوحدي). قالتها بصرامة العاشقة لتحرر حبيبها من أثقاله الدفينة، ولتسرع وتيرة تقوية العلاقة بين حليم ويوسف. وبهذا المعنى، فإن إطلاق الرغبات المكبوتة من معاقلها هو ضمير الفيلم، مثلما أن حياكة القفطان الأزرق ، على وجه الخصوص، هي عمق الحبكة وهدية الحكاية. فالتمهل والإتقان والتطريز والبرم والحياكة واللمس والتكرار هي العناصر التي ترتكز عليها الحبكة، أما »الانتهاء من صنع القفطان« فهو الهدية التي تقود الفيلم إلى ذروة العاطفة بين امرأة قوية وعاشقة وبين زوجها حليم ، الرجل المثلي الممزق بين حبين: حب جسدي قاهر وحب اجتماعي عميق، بين ماض مستمر، وبين حاضر مستبد. شخصيتان قدمتا صورة مؤثرة وساحرة جعلت الحب يتحدث عن نفسه بالكثير من الإيحاء، وأيضا بالكثير من المكاشفة الصريحة. حب ينتمي، رغم القوالب الاجتماعية الجاهزة، إلى حياة هادئة ومتواضعة، في حي شعبي بمدينة سلا . حياة تتكون من متع صغيرة، لكنها تستند إلى ثراء إنساني رفيع.
    لقد نجحت مريم التوزاني في حياكة فيلم مثل ما يقتضيه القفطان من عناية لا تشوبها شائبة. عمل دقيق لتصوير المساحات الضيقة للدكان والشقة، وأيضا أزقة المدينة القديمة وفضاءاتها الحميمة ( المقهى/ الحمام). وعمل أكثر دقة لتصوير الأجساد والوجوه والأيادي والعيون بحساسية كبيرة لا يمكن إغفالها، مما أضفى على الفيلم كثافة وحميمية في نوع من التبادل الشعوري بين الشخصيات وللمتلقي. نتعاطف مع الشخصيات، ونتوغل في أغوارها النفسية ورغباتها وإحباطاتها ومخاوفها، وأيضا في ذلك الإصرار الكبير على المواجهة. أليس الموت نوعا من المواجهة؟ أليس الموت نوعا من التحرر ؟ أليس الموت بداية أخرى لشيء مختلف؟
    صحيح أن الألوان هي لعبة الفيلم بشكل أساسي، وأن الألوان البنية والصفراء تطغى على غيرها من الألوان، بينما تحضر الألوان الزاهية في ورشة العمل، مما يخلق تباينًا مرئيًا رائعًا يتناسب مع المزاج العام للفيلم. غير أن الأزرق هو غاية الفيلم وامتداده، فيما يحضر الوردي كرغبة دفينة تغيب وتحضر، بالدرجة نفسها التي تكشف فيها الشخصيات عن نفسها. إنها لون منسي أو مسروق، أو مغلف بالصمت.
    قدمت التوزاني عملا إبداعيا شجاعا عن الحب، لكنها أيضا قدمت فرصة للنقاش حول المعنى العميق للحب. حب »مولانا جلال الدين الرومي«. حب شمس التبريزي. الحب العابر للجنس، رغم حضور المثلية كثيمة مهيمنة. الحب الذي لا يلغي الآخر، بل يواكبه ويسانده. حب »سيد الرجال« و«سيدة النساء«. الحب الذي يرتفع عن القوالب الجنسية الجاهزة وغير الممنوعة.
    بالإضافة إلى ذلك، قدمت لنا مريم التوزاني قصة مؤثرة عن القفطان/ المشاعر التي تتعرض للانقراض. وهي رسالة غير متوقعة عن التحول من معنى إلى معنى. من البرشمان إلى الماكينة، في عصر يتسارع فيه كل شيء. من الانغلاق والخوف إلى المكاشفة والتحرر، ثم الانخراط من جديد، وبخفة ملحوظة، في العالم (المقهى).
    الفيلم سيثير الكثير من النقاش نظرا لخرقه للميثاق الاجتماعي حول المثلية الجنسية، وحول المعنى المتعدد للحب. لكنه سيثير النقاش أيضا حول إبداعيته واختياراته الفنية، وزمنه وإيقاعه، ومحافل التلقي التي يستهدفها.

الكاتب : مراكش: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 16/11/2022