في التغيير والتنوير والشبكات 9- ثالثاً: في حدود ومحدودية التلقي العربي لمبادئ التنوير

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

حاولنا في المحور السابق، لبسط وتشخيص كيفيات تفاعل ثقافتنا خلال القرنين الماضيين مع مكاسب التنوير. فوقفنا على أنماط من التلقي التي حصلت في الخطاب النهضوي، وأشكال التطوُّر التي لحقت هذه الأنماط في نهاية القرن الماضي. وقد أدركنا ونحن نقترب من المعطيات النصية لخطابات النهضة العربية الأولى والثانية، أننا انتقلنا من عقلانية المماثلة إلى عقلانية الوعي بالذات، حيث تَمّ تجاوز الطابع الشعاراتي لمنجزات فكر الأنوار في فكر النهضة العربية مطلع القرن العشرين، إلى منجزات الجيل الجديد من مثقفي النهضة الثانية، وقد اجتهد في عمليات امتحانه لمبادئ فلسفة الأنوار، وذلك في ضوء مشاغل وإشكالات ثقافتنا ومجتمعاتنا، الأمر الذي يفيد انطلاق مشروع إعادة بناء أفق التنوير المكافئ لمقتضيات مجتمعنا. وأصبح من المؤكد اليوم في ثقافتنا، أن قيم الأنوار أصبحت تشكل رافداً فعلياً من روافد مواجهة مختلف أنماط التقليد، التي ما تزال تهيمن على أغلب خياراتنا في الحياة. إنه رافد يتأسس اليوم في إطار أسئلة ومنجزات مرتبطة بهموم وإشكالات التقليد السائدة في مجتمعنا.
ونحن نبني جوانب من كيفيات تلقينا لفكر الأنوار في القرن العشرين، كنا بصدد مواجهة موقفين اثنين، الموقف الذي يعتبر أنه لم يكن بإمكان فكرنا المعاصر أن يستفيد من الأنوار، بحكم أنه لم ينجز ما يمهد لهذه الإمكانية، أي لم ينخرط في إنجاز مهمة الإصلاح الديني باعتبار أنه الخطوة المؤدية إلى أبواب التنوير، وفي هذا الموقف كثير من التمركز الثقافي الغربي، القائم على تحويل تاريخ الغرب إلى نموذج واحد مطلق. أما الموقف الثاني، فيتعلق بأولئك الذين يرون أن هيمنة سقف الثقافة العقائدية، يشكل عائقاً مركزياً أمام عمليات انتقال رياح وعواصف الأنوار إلى فكرنا، والذين يرددون هذا الحكم لا يعيرون أدنى اهتمام للجهود المبذولة في الثقافة العربية في موضوع نقد العقل العربي، وذلك رغم نخبويتها ومحدودية انتشارها في مجتمعنا.
نتوقف لفحص نمط التلقي الحاصل لفلسفة الأنوار وقيم التنوير في الفكر العربي المعاصر، لعلنا ندرك استناداً إلى العرض التمثيلي السابق، جوانب من العوائق التي أنتجت عُسر وإخفاق التمثل المبدع والمطور لروح خيارات التنوير في ثقافتنا.. فهناك من جهة نوع من الاستسهال في عمليات الاقتراب من مكاسب التنوير، كما تبلورت في التاريخ الغربي، الاستسهال الذي حوَّل أفق الأنوار والتنوير في نظر بعض المنافحين لقيمه إلى شعارات مغلقة، وحوَّلها في نظر البعض الآخر، إلى فكر وثقافة مناقضة كلية لموروثنا الثقافي، الأمر الذي يؤدي إلى لزوم رفضها. وقد حصل ذلك، دون إدراك عميق لأهمية منجزات فلسفة الأنوار وأدوارها في التاريخ الحديث، في علاقته بشروطه الجديدة في المعرفة وفي المجتمع، وفي تحقيق مطلب التقدم المرتبط بضرورة انتصار الإنسان على مختلف صوَّر قُصُورِه..
ننطلق ونحن نفكر في حدود ومحدودية التنوير في ثقافتنا المعاصرة، من مسألة مركزية تعتبر معركة التنوير اليوم في مجتمعنا معركة شاملة ومركَّبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها، يُقلِّص من إمكانية الإنجاز الذي نصبو إليه. ولهذا السبب، يشكل مشروع التنوير الذي ما نزال نتطلع إليه البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة الراهن في مجتمعنا، وقد كان الأمر كذلك قبل أربعين سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها في كَمِّ الزمان. ويبدو لنا في ضوء ما سبق، أن الأمر الذي لا ينبغي التراجع عنه أو التفريط فيه، هو أن نتخلّى تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري، عن مواصلة العمل من أجل بناء قيم التنوير وإعادة بنائها باستمرار، دُون كَلَلٍ في حاضرنا المفتوح على أزمنة مضت وأخرى قادمة.
وضمن هذا الأفق، نرى أنّ من الأمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية، العمل على تأسيس جبهة للتنوير تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء، التي تُعاين بوضوح صوَّر انتشارها المخيف في مجتمعاتنا وفي وسائط الاتصال الشائعة في عالمنا الافتراضي، جبهة يمكن أن تشكل ذرعاً أمامياً، لمواجهة أشكال الاندحار الثقافي، الحاصل في بيئات الثقافة العربية منذ عقود من الزمن، وذلك بفعل اتساع تيارات الفكر النصي المحافظ وتناميها، وانقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الإبداع في فكرنا.
لا نتحدث في هذا العمل عن نموذج جاهز في التنوير بأسئلته ومعاركه، ذلك أنّ التنوير إبداع يجسده تاريخ من المواجهات والمجابهات والمعارك مع التقليد والتقاليد المهيمنة على مجتمعنا. وإذا كان الانفجار السياسي العربي الحاصل منذ سنة 2011، قد أفرز مشهداً جديداً في واقعنا الثقافي والسياسي، واكتشف الجميع بالملموس، أنّ التغيير المنشود في مجتمعاتنا لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل إنّه يتطلب رؤية شاملة، لمختلف زوايا النهوض والتنمية، رؤية تشكل الخيارات الثقافية والاجتماعية قاعدة من قواعدها الصلبة.
تسعفنا قراءة تاريخية يقظة لحاضرنا ومخاضاته الجديدة، بِتبيُّن مزايا الإسلام في علاقاته الممكنة بالتنوير وأهدافه، كما أن نمط العلاقة التي يمكن من خلالها أن ندرك عمق المسافة الفاصلة بين بعض أنماط اقترابنا من المبادئ الكبرى للتنوير، وبين واقع الحال في مجتمعنا يمكن أن توقعنا في مساوئ التبعية والتقليد. ومقابل الموقفين معاً، يظل هناك طريق ثالث يتيح لنا إعادة بناء المشترك في الحاضر الإنساني، وذلك رغم التفاوتات الحاصلة في درجات تطوُّر المجتمعات البشرية، لعلنا نتمكن من رسم معالم مفتوحة أمام القواسم المشتركة بين المجتمعات وبين الثقافات والمعتقدات في التاريخ.. ولا نتصوَّر وجود من يشكك في أهمية العقل والحرية والكرامة في التاريخ.. في الحاضر وفي المستقبل هنا وهناك.
ينبغي أن لا ننسى الإشارة هنا، إلى أنه جرت بموازاة عملية استيعاب الثقافة العربية لمرجعيات الفكر الغربي في الحداثة والتحديث وفي قلبها قيم التنوير، حصلت عمليات استيعاب واستنبات أخرى، مرتبطة بالمظاهر المادية المتمثلة في الجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتقني، حيث نقف أيضاً على مظاهر متعددة من عمليات التحول المعزِّزة لخيارات في الفكر السياسي والاقتصادي، بهدف المساهمة في تطوير الواقع العربي في مختلف أبعاده، ومعنى هذا أن زمن التغريب الأوروبي المرتبط بالمرحلة الاستعمارية، ساهم في تركيب ازدواجية داخل مجتمعنا، وأن هذه الأخيرة لعبت دوراً هاماً في زحزحة وتكسير كثير من المرجعيات التقليدية، المؤطرة لمظاهر وجودنا المختلفة.
يحق لنا أن نتساءل ونحن نُعايِن التراجعات الحاصلة اليوم، في كل من المجالين الثقافي والسياسي داخل مجتمعنا وثقافتنا، هل أخفق مشروع التنوير العربي، بعد عقود من الجهود الهادفة إلى توطين قيمه في مجتمعاتنا؟ إن ما نلاحظه اليوم من انتكاسات جارفة لكثير من القيم التي اجتهد التَّنويريُّون العرب بمختلف أجيالهم في عمليات تبيئتها وترسيخها في الثقافة والمدرسة داخل مجتمعاتنا، يعد في نظر البعض خير دليل على إخفاق مسار التنوير في الثقافة العربية. ويُبْرِز الذين يدافعون عن الإخفاق المذكور، ما يلاحظونه اليوم من ظواهر من قَبِيل انتعاش تيارات سياسية وثقافية تميل إلى تمجيد التقليد والمحافظة، وترفع شعارات العودة إلى نماذج في الدولة والمجتمع والمعرفة والقيم، لا تناسب التحوُّلات التي انخرطت مجتمعاتنا في استيعاب جوانب منها منذ قرنين من الزمان. كما يغفل الذين يردِّدون مثل هذه الأحكام، أن معركة التنوير في الثقافة العربية متواصلة، وما يتم تعميمه اليوم من مواقف عن مآلاتها، يمكن أن يُفْهَم في بعض أوجهه كآلية من آليات المعركة المتواصلة.


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 05/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *