في الحاجة إلى فكر عربي جديد مفكرون مغاربة يضعون خارطة طريق للخروج من النفق

اختارت مؤسسة الفكر العربي لندوتها التحضيرية لمؤتمر فكر 17 الذي سينعقد مطلع دجنبر القادم بالسعودية عنوان « نحو فكر عربي جديد»، وهي الندوة التي التأمت بالرباط يومي 28و29 أكتوبر، وضمت أصوات عشرين مفكرا مغاربيا، قاربوا الموضوع في أفق البحث عن مكامن الخلل وسبل تخطي مآزقه.
إن المتأمل لعنوان الندوة، يدرك أن الحاجة الى الجِدة تعني أن هذا الفكر استنفد دورته ولم يعد بالتالي قادرا على قراءة الواقع، واجتراح أجوبة شافية عن أسئلته التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم. فطيلة القرنين الماضيين لم يبتكر الفكر العربي حلول لمعضلات الواقع لأنه ظل رهين الأطروحات والنظريات التقليدية التي لم تخرج عن منحيين: اجترار أفكار النهضويين العرب أو استدعاء الفكر الغربي للإجابة عن إشكاليات الواقع العربي، وهما منحيان بقيا بدورهما حبيسي ثنائية الحداثة والتراث التي أربكت الفكر العربي، واستنفدت جهده ما جعله عاجزا عن مواجهة الأسئلة الكبرى التي أصبح البحث عن أجوبة لها ملحا أكثر من أي وقت مضى، أجوبة تتناسب مع الثورة المعرفية الهائلة وتستجيب لانتظارات الإنسان العربي.
هل نقرأ التراث ونتمثله بعد تملكه أم نقدسه؟ إلى متى سيظل خطاب التراث سلطة إيديولوجية مرجعيتها التراث نفسه ، وسلاحا ضد كل خطاب حداثي، حتى أن هذا التراث قد يتماهي في كثير من الأحيان مع الدين؟ ألم يحن الأوان لقراءة التراث قراءة إبستيمولوجية في كليته وتاريخيته بهدف التحرر منه وبناء موقف منه.
هذه الأسئلة، هي ما حاول المفكرون الحاضرون ملامستها ووضعها تحت مجهر النقد والتفكيك من أجل طرح معالم فكر بديل يقرأ التراث ويتمثله في أفق تجاوزه للشروع في بناء الحاضر والمستقبل.

 

عبد الإله بلقزيز:
آن الأوان لنفتح كل شيء لسلطة النقد

ربط المفكر والأكاديمي عبد الإله بلقزيز واقع الفكر العربي، بفشل العرب في معركة التحديث، إذ بعد أربعة عقود ارتقى فيها هذا المطمح الى مستوى الفريضة، حيث كان مسكونا بفكرة التقدم، لم يعد هذا ممكنا اليوم بعد جولات من التجريب تُطلعنا خبراتها ومحصلاتها على الحدود المتواضعة التي بلغها التحديث في كافة المجالات: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ورأى الأمين العام للمنتدى المغربي- العربي أن إعمال الفكر يقتضي طرح فرضية مؤداها أنه آن الأوان لنوجه نقدا عميقا وجذريا لمقولة التحديث من داخل الحداثة لا من خارجها لأن التحديث ظل وسيبقى دائما موضع قدح وتشنيع ونقد من قبل دعاة التقليد.
ودعا مؤلف «الديني والدنيوي: نقد الوساطة والكهنتة» إلى فتح صفحة هذا التحديث أمام قراءة نقدية من موقع حداثي. فالتحديث الذي أصبحت له اليوم أقلام وجيوش مدافعة عنه، هو في التجربة العربية المعاصرة تحديث لا يقطع مع التقليد وإنما يستصحبه ويستدخله في برنامجه.
ويعزو بلقزيز أسبا هذا الفشل الى كوننا دخلنا غمار التحديث بعد فصله عن جذوره الفكرية التي تشكل وحدها الحاضنة الطبيعية لمشروع التحديث، أي الحداثة، مؤكدا أننا خضنا تجربة تحديث دون حداثة وكان ثمن ذلك هو إسقاط الحداثة باسم التحديث.
وكمثال على عدم ارتباط الحداثة بالتحديث في العالم العربي، ساق بلقزيز مسألة الدولة الوطنية الحديثة التي ولدت في أجواء الاستقلالات الوطنية، حيث أنها لم تتعد كونها مزيجا ممجوجا وغير طبيعي بين الدولة السلطانية التقليدية الموروثة، وبين الدولة التي وضعت أنويتها الهياكل الإدارية للإدارة الكولونيالية في فترة الاستعمار الأجنبي، لتظهر بعد الاستقلال هذه الدولة الشوهاء التي تحمل من القديم كثيره ومن الجديد شكلياته. وبمعنى أدق، فإن التحديث السياسي، كما يرى ذ. بلقزيز مس القشور ولم يمس مضمون الدولة السلطانية الاستبدادية التقليدية التي يعاد إنتاجها اليوم بأدوات ووسائل جديدة، كما أنه تم على مستوى الوسائل، وليس كرؤية وبرنامج فكري أي أنه لم يتجاوز التصور الأداتي للتحديث، خاصة في شقه السياسي.
على المستوى الاقتصادي، أكد بلقزيز أن تبني الرأسمالية كتجسيد للحداثة الاقتصادية لم يكن داخل المجتمعات العربية التابعة سوى عملية إعادة إنتاج للعلاقات الإنتاجية التقليدية واستدماجها لتتعايش مع نظم الإنتاج التقليدية، ما فتح شهية الاقتصاد الريعي الذي أصبح هو العقل المسيطر في النظام الاقتصادي العربي، وهو ما أدى إلى تشكيل مشهد اقتصادي مزيج من تحديث شكلي رأسمالي محكوم بمنظور ريعي متخلف وموروث، يعاد إنتاجه اليوم على نحو معمم.
في النظام الاجتماعي: اعتبر بلقزيز أن الحديث الذي ساد داخل الخطاب السياسي قبل أربعين سنة عن الطبقات ظل مجرد وهم في تربتنا العربية. وبعد أن كان يجري عن طبقات وفئات وبنى اجتماعية قائمة على أساس تضامن تصنعه وتحدده علاقات الإنتاج، نجد اليوم واقعا اجتماعيا جديدا تتصدره مفاهيم العصبية والطائفة والقبيلة والعشيرة والعائلة التي أثرت على مسار التحديث بتدميرها للبنى الاجتماعية الحديثة، وتحكمها في المشهد السياسي عبر الانتخابات، وقدرتها على تدمير الدول عبر الحروب الداخلية.
وخلص بلقزيز الى الجزم بأن سبب فشل مشروع التحديث بالعالم العربي على كل هذه المستويات، يعود الى أن التحديث الحاصل اليوم لم ينفذ إلى العمق لأنه تحديث مفصول عن مقدماته الفكرية، مشيرا الى أن الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المدني نجحا في الغرب لأن هذه المؤسسات هي تجسيدات مادية لمنظومة فكرية لم تقع أي فجوة أو تجاف بينها وبين تجسيداتها ، عكس التجربة العربية التي عملت على الأخذ بهذه التجسيدات بمعزل عن كل هذه المقدمات، والحال أن هذا التوجه والذي وسمه بلقزيز بـ «الخيار الانتحاري» ، لن يوصلنا إلا للنفق المسدود أو الاصطدام بجدار الامتناع، والامتناع هنا هو قدرة المجتمع التقليدي على الابتعاث من جديد، وتحدي كل محاولة للتحديث والتجديد الفكري.
واقترح صاحب «نهاية الداعية» كبدائل للخروج من هذه الوضعية، وضع الأصبع على مواضع الخلل، ومواجهة ونقد «ما جعلناه أمورا مستبدهة ومسلمات يقينية، علينا اليوم تفكيكها وإعادة قراءتها ونقدها لبناء رؤية للمستقبل. فقد آن الأوان لنفتح كل شيء للسلطة المعرفية العظيمة التي اسمها النقد».

عبد الله ساعف:
ورش تجديد الفكر العربي مركزه دائرة العروبة

لاحظ مدير مركز الدراسات والابحاث في العلوم الاجتماعية وصاحب «التطلع الى الدولة الحديثة و»المعرفة والسياسة» أن موضوع تجديد الفكر العربي أصبح يطرح بشكل كبير في الأونة الاخيرة ، نظرا للحاجة الملحة لتجديد الرؤية الفكرية العربية لقضايا هذا العالم. واعترف ساعف بأن ما عاناه من قبل جيل المفكرين العرب من خيبات أمل جراء تشييدهم طوباويات حالمة بأفق الحداثة والوحدة والعروبة ، وبعد وقوف هذا الجيل على المفارقات البينة بين الواقع وبين ما كان يطمح إليه، أي بين الواقع الصعب وامتحاناته والتطلعات، لا يزال متمسكا بالأفق العربي العروبي أكثر من أي وقت مضى.
واعتبر ساعف أن التجديد اليوم لابد أن يمر عبر سبعة مداخل ، لا يمكن مباشرة ورش تجديد الفكر العربي من دونها وخاصة تجديد العروبة وهي:
الهوية العربية الاسلامية المنفتحة التي تواجه المعتقدات بتسامح لكن في قلب العروبة لأن مسألة الهوية مازالت قائمة لكن بعيدا عن الرؤى المنغلقة على ذاتها والمتطرفة، وبعيدا ما شهدناه في السنوات الاخيرة من تطاحنات، أي أن الانفتاح على الديانات والمعتقدات يجب أن يتم داخل الهوية الاسلامية العربية بدون تخلٍّ عن الاساسيات.
بناء علاقة جديدة مع التعددية الثقافية والعرقية في إطار تماسك الشعوب وليس بمنطق التفكك.
3-الوحدة: لقد تم تجريب عدة أشكال وصيغ من هذه الوحدة والتكتلات. اليوم مع تراجع ومراجعة دور الدولة خاصة بعد الربيع العربين تلاشت هذه الروابط وبدأ الحديث عن تجديد العقد الاجتماعي الذي يربط الشعوب بمنظومتها الدولتية، فبرز دور جديد للدولة وهو الدفاع عن شعوب المنطقة وضبط انفتاحها على العالم الخارجي وصيرورات العولمة.
4- الشعور بضرورة وضع ميثاق أخلاقي جديد يعتمد على مبادئ بسيطة ضمنها عدم التدخل في شؤون الشعوب أي احترام إرادتها مع التخلي عن فكرة النفوذ والإملاءات. ما اعتبره ساعف لحظة لتشكل ثقافة جديدة تجعل الانسان المواطن مركزها، وتدفع الى ضبط وتحديد التوجهات الأساسية للسياسات العمومية داخل هذا الإطار .
5- القطع مع السلطوية على مستوى كل تعبيراتها المختلفة رغم الوتيرة البطيئة االتي يتم بها هذا القطع.
6دائرة العروبة: يرى ساعف أن هذه الدائرة أصبحت اليوم استراتيجية، بالنظر الى الاحداث التي كانت ولاتزال المنطقة العربية مسرحا لها منذ احتلال العراق الى تداعيات الربيع العربي.
7-استعادة الدور الأساسي للشعوب: خاصة بعد أحداث الربيع العربي التي أبرزت بشكل جلي إمكانات ودور الشعوب في التغيير وهو دور تم التطلع إليه في الستينات والسبعينات رغم وجود عوامل انفجار عديدة لحظتها، لكنه اليوم أصبح أوضح.
ومن دون هذه المداخل السبعة وخاصة تجديد العروبة، لا يمكن مباشرة ورش تجديد الفكر العربي.

محمد المعزوز:
لا يمكن للفكر العربي القبض على تفاصيل اليومي بأنساق فكرية قديمة

لا يفصل رئيس مركز شمال إفريقيا للسياسات الأزمة التي يعيشها الفكر العربي عما يعيشه الفكر الانساني اليوم، معتبرا أن العالم يعيش أزمة أنساق فكرية جديدة، حيث أنه لعقود لم يعرف تجديدا فكريا. فحتى المدرسة الفلسفية الفرنسية في القرن 20 اشتغل روادها أمثال دولوز ودريدا وفوكو بأنساق فكرية موروثة عن القرنين 17 و18.
وضمن هذا الربط، يرى مؤلف «مضمرات الممارسة السياسية بالمغرب» ورفيف الفصول»، أن الفكر العربي اليوم في علاقته بالفكر الإنساني الكوني، فكر يعيش انحسارا وأزمة لأنه تاريخيا عاش على ثنائيات منذ القرن 16 والمرتبط زمنيا بضم العثمانيين لبعض الدول العربية وتأثرهم بالمركزية الاوربية أنذاك، وهي المرحلة التي شكلت بداية انفتاح الفكر العربي على منظومة فكرية جديدة ستستكمل مع محاولات الإصلاح التي قادها محمد علي.
وإذا أردنا الوقوف على هذه الثنائيات سنجد:
1 ثنائية الدولة الوطنية والدولة الطلائعية
2 – العودة الى دولة الخلافة من خلال الدولة المدنية، وظهور مفهوم الوطن
3الدولة الإسلامية والدولة المدنية وبداية وضع أولى الدساتير.
هذه الثنائيات، يقول المعزوز، شكلت وسائل مدمرة وعوائق حقيقية أمام تجديد الفكر العربي لأسئلته رغم ما يمكن تسجيله من حالات مشرقة للمفكرين المغاربة الذين قدموا إضافات حقيقية على مستوى نقد الفكر العربي قادت الى خلخلة عدد من المفاهيم الكبرى في علاقتنا بالآخر وبالفكر الكوني.
ويلاحظ المعزوز أن تاريخ الفكر يقدم لنا نماذج على أن النسق الفكري القوي ينفتح دائما على نسق فكري أقوى منه، وهو ما لن يتم دون خلق مجالات استفزازية تساعد على تفكيك اليومي وقراءتهن ليخلص الى أن عصر الذكاء الاصطناعي وعالم التقنية اليوم أربكا حسابات الجميع، ولا يمكن بالتالي مقاربة قابلية التلقي لدى جيل آخر جديد، له تمثلات جديدة، بدون تملك أدوات نقدية جديدة تستوعب كل هذه التحولات وهو ما يجعل المفكرين العرب أمام تحد مطلوب منهم، لربحه، القبض على تفاصيل هذا اليومي وقراءته بأنساق فكرية قديمة، وهذا القبض لن يتم إلا بجهاز مفاهيمي وفكري جديد.
مختار بنعبدلاي:
إشكالات ما بعد الحداثة عطلت عجلة الفكر العربي

يرى مدير مركز الدراسات الانسانية (مدى) أن اهتمام الفكر العربي تركز، بالتقابل مع نظيره الغربي المعاصر، على اقتباس واستعارة الأدوات الفلسفية المنهجية الغربية التي تقوم على التحليل التاريخي، والإناسة، وعلوم اللغة (بما فيها من إتيمولوجيا ومن دراسات المقارنة بين اللغات) والتأويليات.. وتدويرها عربيا لمعالجة قضايا التراث، لافتا الى ضرورة التمييز هنا بين ثلاثة مسارات في الفكر العربي المعاصر، في تفاعله مع الفلسفة الغربية المعاصرة، من جهة، وفي شقه التراثي من جهة ثانية:
الفلسفة العامة حيث يقتصر البحث على الترجمة والتعريف في كثير من الأحيان لاعتبارات تتعلق بالدرس الجامعي..
التملك وإعادة التدوير، في ما يخص إمكانية استثمار المناهج والتقانات العلمية المعاصرة (اللسانيات وعلوم اللغة، علم الإناسة، التأويليات) بصفتها أدوات ووسائل تجعلنا أكثر اقترابا من فهم تراثنا وإشكالياتنا المعاصرة.
الإسلاموية والاجتهادات والمراجعات والمراجعات المضادة التي تلتها في ما يخص التراث.
وأشار مختار بنعبدلاوي الى أن دائرة التنوير العربي عرفت مشاريع فكرية وسياسية اتسمت بمرجعيتها العقلانية، وبتعدد مصادرها، بدءا بمقاربات إلياس مرقص وياسين الحافظ، وطيب تيزيني، وصولا إلى محمد أركون وعبد الله العروي ويوسف الصديق، حيث تميز هذا الفكر بسعيه إلى توظيف المفاهيم والآليات الغربية من أجل فهم أفضل لقضايا الفكر العربي، بغض النظر عن مقدار توفقه في هذه المهمة .
وعاب بنعبدلاوي على الفكر العربي تبنيه وإقامته المديدة في إشكالات مابعد الحداثة لغياب البيئة الحاضنة، وهو التبني الذي لم يسفر إلا عن «غلبة الاستيهامات والتسطيح ، والتنافس في ابتكار الهوامش وتركيزها، بما يجعلنا أمام حالة جديدة من الفوات التاريخي بحسب تعبير عبد الله العروي».
وفي حديثه عن الاشكالات المطروحة اليوم على الفكر العربي، ذكر بنعبدلاوي أن أخطر ما يتهدد تطور وإشعاع الفكر العربي اليوم هو تداعيات الحروب الصراعات التي عرفتها المنطقة العربية، «ما جعل الاهتمام بالفكر والثقافة خارج دائرة الأولويات، إضافة إلى انخفاض المستوى التعليمي، وضعف استثمار الثورة المعلوماتية في توسيع قاعدة القراء العرب، وظاهرتي التوجيه والتسطيح التي تمارسها بعض المراكز الفكرية، وتهميش كل ما له علاقة باللغة والفكر العربيين في الجامعات الخاصة».

عبد السلام بنعبد العالي: أصبحنا أمام فكر إرهابي مستحدث، وفي مواجهة وثوقية مادية مسلحة

ينطلق المفكر والمختص في شؤون الفلسفة، وهو يحدد إمكانات استشراف الفكر العربي لآفاق المستقبل، من تحديد علاقة هذا الفكر بالماضي أو بالأصول، معتبرا أن «الأصول تتأسس ولا تُؤسِس» أي أن تتغير كلما لحق فروعها تغيير.
مؤلف «جرح الكائن» و»القراءة رافعة رأسها» يرى أننا – ضمن هذا الالتباس الذي تترجمه معايشة الحاضر مع الرغبة في الإقامة في الماضي – نعيش زمنية لها قدم في الماضي وقدم في المستقبل، وهو ما يطرح علينا ضرورة تملك التراث ليس باعتماده بل بمعناه الانفصالي الذي يتم معه نفي المرجعية، معتبرا أن التراث ليس أصولا راسخة بل يعاد تأسيسه عبر الزمن، وأن التجديد يتم عبر مقاومة الحقيقة أيا كان مصدرها.
ويسجل عبد السلام بنعبد العالي في هذه الصدد أن حركة التاريخ غدت سلسلة من التأويلات ومن التأسيس وإعادة التأسيس، وأن ما يعطي لبعض المنعرجات الكبرى في التاريخ أهميتها ليس كونها ثورات تتجه نحو المستقبل فحسب، وإنما كونها قراءات جديدة للماضي وإعادة بناء له.
ولتوضيح موقفه من تركة الماضي الفكرية، يعتبر بنعبد العالي أن كل توقف عند الماضي لتمجيده دون الاتكاء عليه لتحقيق قفزة نحو المستقبل، لا يدل على تصلب هذا الماضي فحسب وإنما أيضا على» انسداد آفاق المستقبل التي لم تنفتح بما فيه الكفاية لتنير ذاتها وتنير معها الماضي» ما يجعل الحديث عن الاستشراف بمثابة اندفاعة نحو المستقبل، اندفاعة منطلقة من التراث ومتجاوزة له في نفس الآن. وفي هذه النقطة يلاحظ أنه في مجتمعاتنا التراثية لا يعني الأفق والاستشراف إلا الرجوع الى الوراء وهذا الرجوع كما يرى هو الكفيل بدفعنا نحو الغد وهو إحياء للماضي للابتعاد والانفصال عنه والذهاب نحو حاضر قوي بماض حي وليس القطيعة التي نظر لها الكثير من المفكرين العرب أواخر القرن الماضي، داعيا الى قطيعة تكون انفصالا لا متناهيا وليس انفصال حاضر عن ماض أو حداثة عن تقليد، بل استنبات لنموذج جديد يتوجه الى المستقبل ويبحث عن النماذج القديمة ، لأننا أصبحنا أمام فكر إرهابي مستحدث، ما جعلنا في مواجهة وثوقية مادية مسلحة مجسدة في مؤسسات وأجهزة.


الكاتب : أنجزت التغطية: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 01/11/2019