في اليوم العالمي للكتاب.. الروائيّ الأرجنتيني سَابَاتُو: هذا الكتاب أنقذني من الموت !

هذا الكاتب كانت له قصّة طريفة مع الموت،وهو لمّا يزلْ في شرخ الشباب، وعنفوان العمر وريعانه، طري العود، غضّ الإهاب، عندما ادلهمّت، واسودّت الدنيا في عينيْه في غربته ب فرنسا بعيداً عن بلده حيث أشار في مختلف المناسبات ضمن أحاديث مختلفة أجريت معه أنّ الحياة قصيرة جدّاً على الرّغم من عمره المديد، وأنّ مهنة العيش صعبة وشاقة للغاية، ومن متناقضات الحية وسخريتها في نظره أنّه عندما يبلغ الإنسان النضج، ويبدأ في إدراك خبايا الأمور، والتعمق فيها تداهمه العلل والأمراض، ويهدّه الوهن، ويحدّ من نشاطه وحيويته العياء، ثمّ أخيراً يأتي الموت ويباغته،وقال إنّه كان ينبغي أن يعيش الإنسان على الأقل 800 سنة ..!. ويمكن أن يعتبر هذا مبالغة، إلاّ أنه أردف قائلاً :»لاغرو،ولا عجب فأنا أحبّ المبالغة في كلِّ شئ «.!
انبعاث
وقال ساباتو :» إنّ» الكتاب» قد أنقذه حقّاً من موتٍ محقّق،وهو يشير في هذا القبيل الى أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد أثقلت كاهلَه، وقصمت ظهرَه، حيث كان يعيش أقسى وأعتى وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة عميقة مظلمة تنفتح تحت قدميْه روحياً ومادياً، عندئذ فكّر في أن يجعل حدّاً لحياته، وأن يلقي بنفسه في نهر»السّين» الباريسي، إلاّ أنّه حدث كما يقول بالحرف الواحد : «أنني سرقتُ كتاباً من إحدى المكتبات وهي مكتبة «جيلبيرجون»، التي كانت توجد بجوار هذا النهر المشهور،وذهبتُ إلى إحدى المقاهي في الحيّ اللاتيني،وفتحت الكتاب في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلاً ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه، وردّني إلى الحياة بقوّة سحرية خارقة، وبسَط أمامي مباهجَ الحياة، وفضيلةَ التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس،كتبتُ على الفور إلى أمّي في الأرجنتين، وطلبتُ منها بأن ترسل لي بعض النقود لأعود إلى بلدي حيث التحقت بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم، وبعد أن حصلت على الدكتوراه في هذا الحقل عدتُ من جديد إلى مدينة النور باريس، التي أحسستُ وكأنّني ولدتُ فيها من جديد، وأقنعتني اتصالاتي وقراءاتي وصداقاتي مع الكتّاب والرسّامين السّورياليّين بأن أهجر عالمَ الرياضيات والعلوم من جديد، وأن أرتمي في أحضان الأدب والخلق والإبداع ففعلت «.
فلسفة فوضوية
يشير «ساباطو» إلى أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم، إلى فلسفته «الفوضوية «. وكان «ساباتو»يعتقد انّنا نعيش نهاية عهد، وبداية عهد آخر، وأنّ العهود الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار، والأعاصير الحياتية والمفاجآت،إذ أنه في هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهر الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فإنّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب، وتمحيص وتفحيص أفكار الماضي واستخراج ما هو صالح منها، ونبذ ما هو طالح بها .
ويقول ساباطو عن وظيفة الفنّ في الحياة:إنه يصلح لإنقاذ صانعه،ومبتكره، ومتلقّيه، وقارئيه من الانهيار، بل إنه يساعدنا على مواجهة بعض اللحظات الحالكة والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة والوحدة، والحيرة والقلق، والارتياب حيال التساؤلات الكبرى، والألغاز المُحيّرة للوجود التي تطرح على المرء في لحظات مّا من مراحل عمره.

السعادة عند الإغريق
أشار ساباتو الى أنّ الإغريق كانوا خيرَ مُربّين لشعوبهم على المستوييْن التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة «بيريُّوس» الذين لم يكونوا متعلمين بل أمييّن، مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكز وفانيسو سواهم، وكانوا يبكون، ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم على إنقاذ ذواتهم، وأنفسهم، ممّا كان يجعلهم أكثر سعادة واستعدادا لمواصلة العيش وفهم الحياة بشكل أحسن،أيّ فهم واستيعاب الجوانب الايجابية والعناصر الصالحة فيها. ( هذه المدينة الإغريقية الساحلية الجميلة التي تعبق بالحيوية وحبّ الحياة التي تتجلّى في عادة تكسير الصّحون بعد كلّ وجبة عشاء، زرتها في مناسبات شتّى خلال رحلاتي العديدة من برشلونة إلى الإسكندرية (بحراً) ثم إلى القاهرة ( برّاً ) ذهاباً وإيّاباً أيام الدراسة والتحصيل و ( الجدّ والضّحك واللعب في آن..)
ويرى «ساباتو» أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضاً، خاصّة في ما يتعلق بالتراجيديا، ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، إلاّ أنّ هذا الجمال ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكوراً في إناء، أو رسماً على فخار، بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الّرّوح والوجدان أكثر ممّا يخاطب العين والأذن. ويختم الكاتب السّاخر حديثه بالقول: « إنّ مثل هذه الأحاديث تمليها عليه السّنون،فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعد أن خبَا ضياءُ عينيه، ووهنت صحّته، وقلّ نظرُه حتى كاد يفقده، وبعد أن كان قد توقف عن القيام بأيّ نشاط عضوي،سوى المشي بتؤدة وتأنّ وتريّث، وهدوء رويداً رويداً بضعَ خطواتٍ قليلة معدودات في باحة بيته. وكأنّ ساباتو في هذا المعنى العميق والحزين يُذكّرنا ببيتيْ الشاعر العربي أبي عليٍّ البصير البليغين الذي يقول فيهما:
لئنْ كان يهديني الغلامُ لوجهتي / ويقتادني في السّير إذ أنا راكبُ
فقد يستضيئُ القومُ بي في أمورهمْ / ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ
معانقة الحياة..
الكاتب الارجنتيني الكبير الرّاحل « إيرنيستو ساباتو» هو صاحب الأعمال الرّوائية الذائعة الصّيت في بلده الأرجنتين، وفي أمريكا اللاتينية، وفي العالم الناطق باللغة الإسبانية مثل: «عن الأبطال والقبور»، و»النّفق»، و»ملاك الظلام»، و»أبادّونْ المُهلك» وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها ساباتو عصرَه بكلّ ما تميّزت به بلاده الأرجنتين بالذات من فتن، وقلاقل ومشاكل، واضطرابات ، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية العسكريّة فيها من مظالم وتجاوزات مثلها مثل أيّ حُكم عسكري ديكتاتوري جائر ، حيث ناءت كاهله مهمّة شاقة عانى منها الكثير عندما كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حُكم الرّئيس الأرجنتيني» راؤول ألفونسين».
قال ساباتو قبيل وفاته :» إنّه وقد شارف المائة من عمره ما زال يتعلّم أصولَ العيش، وفنّ الحياة التي تحفل بالآلام، والمحن، والأحزان، وحياة الكاتب أو الفنّان أكثر خطراً وتعقيداً من الآخرين نظراً لحساسيته المفرطة، وأنّ المرء في بعض الأحيان يتمنّى الموت ويشعر بميل له لجعل حدّ لحياته ، وهذا ما حدث له بالفعل عندما كان في مقتبل العمر. وعليه، فإنّ هذا المشهد كثيراً ما يتكرّر في كتاباته ، إلاّ أنّ أبطاله على النقيض من ذلك ينتهون دائماً بمعانقة الحياة، والتشبّث بتلابيبها، وإقصاء التهلكة عنهم، ولهذا فليس هناك أيّ دين يبيح الانتحار، بل إنّ جميع الأديان تحرّمه.
سبق لإرنيستو ساباتو أن حصل عام 1984 على جائزة «سيرفانتيس» المرموقة التي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية الهامة الأخرى داخل بلاد هو خارجها .توفّي ساباتو عام 2011عن سنّ تقارب قرناً من الزمان …
الحكمة أن ( الكتاب) هو ليس منقذ كاتبنا السّاخر «ساباتو» وحسب ، بل هو منقذ البشرية جمعاء فلا تنسوه في «يومه العالمي» وفي غير يومه كذلك !.

*كاتب وباحث من المغرب،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.


الكاتب : د . محمّد محمّد خطّابي*

  

بتاريخ : 26/04/2024