«في انتظار العنوان» لحسن قرنفل: تسريد الهامش وتخييل التاريخ بحثا عن مجتمع ما بعد الاستقلال

 

بعد حضوره اللافت في مجال السوسيولوجيا، وتأكيده لشهادة بازغة في هذا المجال تأليفا وتدريسا، يدخل حسن قرنفل غمار الإبداع الأدبي عبر جنس الرواية الذي يبقى أكثر الأنواع الأدبية قدرة على تصوير الواقع، وذلك من خلال تقديم الماضي بوقائعه التي مضت في الزمان ولم تمض في المخيال الفردي والجمعي، مستفيدا من جنس التخييل الذي يستوعب اليومي والتاريخي، الذاتي والموضوعي، الماضي والحاضر… وكل ذلك بنية إعادة إنتاج الواقع عبر وسائط فنية وجمالية ومعرفية بعيدا عن المحاكاة التسجيلية المبتذلة التي فرخت نصوصا روائية عقيمة. ولم يفت الكاتب حسن قرنقل الباحث الاجتماعي، بوصفه مرسلا للخطاب، البحث في تيمات المجتمع المغربي واتخاذها تيمات أساسية لتشييد العوالم التخييلية لروايته “في انتظار العنوان” بغية مساءلتها وتحريكها عبر كيانات تخييلية وأخرى واقعية.
وفي هذا السياق، عمل الروائي على استدراج الهامش وتخييل التاريخ عبر الحفر في الذاكرة، وإعادة كتابتهما وطرح كثير من الأسئلة إزاءهما، متحررا من أكاديمية الباحث الاجتماعي دون أن يبتعد عنه، مستثمرا حرية الروائي لتقديم سردية حافلة بمجموعة من التيمات، نذكر من ذلك: تيمة التنشئة الاجتماعية، تيمة التكافل الأسري، تيمة الحرية، كاريزمية الأب…

التيمات:
11- التنشئة الاجتماعية:
تتماهى رواية “في انتظار العنوان” مع ذاكرتنا وتاريخنا سواء من حيث متخيل الطفولة الضاج ببداهة الأسئلة وبداياتها وتمثل وتمثيل ذاكرة الطفل الطرية الأشبه بالصفحة البيضاء، لو جاز لنا استعارة تعبير جون لوك، للعالم وعناصره مستفيدا من تخصصه في علم الاجتماع الذي أسعفه في إدراك دور التربية الآتية من الشارع والأسرة والمدرسة… في حياة الأطفال.
تركز، إذن، رواية “في انتظار العنوان” على التنشئة الاجتماعية من خلال علاقة الطفولة بمؤسسة الأسرة والشارع والمدرسة وكل ما يصب في تربية الطفولة وتشكيل وعيها، إذ تحتفي الرواية بمجموعة من الأطفال الذين سيصبحون في نهاية الرواية رجالا لهم مكانة اجتماعية (كمال، عبد السلام الجبلي، جواد اللباط)، وتحضر الأسرة في الرواية بوصفها مؤسسة مساهمة بقسط كبير في صنع وخلق أفراد المجتمع.
*كمال: الطفل الذي أصبح أستاذا يسعى إلى الحرية والتغيير عبر الكتابة التي هي رمز للثقافة (سلطة القلم)، ثقافة جناها من مساره التي ابتدأ مع الطفولة لما تفتح وعيه مبكرا على الثقافة والمعرفة بمختلف أنماطها (قراءة الجرائد لوالده، السينما…).
*عبد السلام الجبلي: ابن بائع الكيف الذي يضمر الحقد والكراهية للآخرين والرغبة في إذلالهم، وذلك راجع إلى تربيته التي تفتقر إلى وجود الأب المختفي على الدوام بسبب الخوف من السلطة لمتاجرته في الكيف، لينتهي عبد السلام شخصية مرموقة ويتسلق الرتب بطرق مشبوهة، ورغم ثقافته فإن فكره الانتهازي لم يتغير (حب الظهور أمام صديق طفولته كمال، محاولة إرشائه كي لا يصدر روايته التي فيه ذكر لماضيه أيام الطفولة؛ أي محاربة الفكر والثقافة والرغبة في استمرار الوضع على ما هو عليه لضمان مصالحه؛ الفكر المقاوم للتغيير).

2- تيمة السياسة:
يستعيد المؤلف في روايته فترة سياسية عصيبة عاشها المغرب الخارج من الاستعمار؛ أي فترة الستينيات والسبعينيات حيث اشتداد الصراع بين المخزن والمعارضة وتأثير ذلك على المجتمع وأفراده. في هذا الصراع المغربي- المغربي، يستحضر السارد وضعية الأحزاب بين حزب منبطح مسلوب الإرادة، وبين حزب معارض له رأي مخالف وتصور لبناء مجتمع تسوده الحرية والعدالة والديمقراطية، وهو ما أفضى إلى إعلان حالة الاستثناء؛ إذ بعد التصويت على دستور 1962 الذي وقفت ضده المعارضة بقيادة حزب القوات الشعبية، وتنظيم الانتخابات التشريعية الأولى سنة 1963، وتقديم المعارضة لملتمس رقابة سنة 1964 قصد إسقاط حكومة باحنيني، واندلاع أحداث الدار البيضاء في مارس 1965م، سيتم إعلان حالة الاستثناء بالمغرب يوم سابع يونيو من سنة 1965، يقول السارد: “لم يكن رئيس البلاد ينظر بعين الرضا لما يقع، حيث أصبحت المعارضة تتقوى من خلال مخاطبتها مباشرة الرأي العام عبر تدخلاتها في البرلمان، وعبر انتقاداتها اللاذعة والذكية أحيانا لقرارات الحكومة. وقد استغل رئيس البلاد اضطراب الأغلبية في التصويت على إحدى الميزانيات، فقرر تعليق عمل البرلمان وإعلان حالة الاستثناء، وبذلك جمع كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والعسكرية والدينية في يديه” (2). هكذا يعود الروائي إلى حقبة فارقة في تاريخ المغرب الحديث بنفس الروائي المتحرر من هاجس مطابقة التخييل للمرجعية التاريخية، بل بنفس الروائي المنفتح الذي يبحث في ما غض عنه المؤرخ الطرف، من خلال انفتاحه على “كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، ولا تعرفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التماثلات الرمزية في ما بينها، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى”(3)، هكذا يعمل الكاتب على مساءلة الواقع ومحاكمته عبر تفجير أسئلة موحية تحتاج إلى تأمل قصد تجنب كل ما يسهم في خلق توتر يرهن مصلحة البلاد سنوات أخرى من الانتظار.

3-تيمة المكان وجماليته:
تحتفي رواية “في انتظار العنوان” احتفاء كبيرا بالفضاء، حيث نتعرف على فضاء المدينة المغربية العريق ونحن نتبع مسار شخوص الرواية، حيث يجعل المؤلف القارئ يتذكر مجموعة من الأمكنة والفضاءات التي سكنت وجدانه، ويعتني الروائي بالفضاء في روايته عناية خاصة، سواء بالفضاء المفتوح أو الفضاء المغلق.

أ- الفضاء المفتوح:
سيرة مدينة بصيغة الجمع:

يعتني حسن قرنفل في روايته بفضاء المدينة العتيقة بأحيائها العريقة وصناعة الدباغة العريقة وناسها البسطاء، لكن اللافت للانتباه أن الكاتب لا يسمي اسم المدينة التي تدور فيها وقائع القصة؛ وإن كانت كل المؤشرات تقول إنها مدينة فاس ؟ !! لماذا؟
نفسر ذلك بكون الروائي يتوخى من خلال عد تسمية المكان بأن أحداث هذه الرواية عاشتها جل مدن المغرب في تلك الفترة المحكي عنها؛ تشابه في الشخوص والمصائر والمآلات والتطلعات… لأن “المكان، في حالات كثيرة، ليس حيزا جغرافيا فقط، فهو أيضا البشر، والبشر في زمن معين”(4)، يحاول الروائي استعادة المكان بواسطة الذاكرة أو من خلال ما انطبع في هذه الذاكرة بوصفه إنسانا “عاش ذلك الزمان في ذلك المكان، وافترض، بالتالي أن من المفيد أن “يقول”؛ كيف رأى الأشياء، كيف عرفها أو تعرف عليها، دون مقارنتها مع المراجع والمصادر والأرقام، باعتبار أن هذه القراءة تتيح إمكانية جديدة للكشف والاكتشاف، ومن ثم لإعادة ترتيب الأحداث والوقائع بطريقة مختلفة، قد تساعد على رؤية إضافية”، هكذا يصبح التخييل عند حسن قرنفل تمثيلا ذهنيا وتمثلا مرتبطا بمقصدية تواصلية تجلب الخارج نصي إلى داخل النص لبناء عالم معرفي وفق قصديته الخاصة.
سيرة: الحي الشعبية والمقهى والسينما ودكان البقالة والمدرسة…

داخل المدينة، يدخلنا السارد، عبر الطفل كمال، إلى المقهى الشعبي وما يحويه من ديكور بسيط، وإلى السينما زمن “صاحب المصباح” وإلى المدرسة حيث الانضباط وحسن الهندام، وإلى الحي الشعبي البسيط بأمكنته العتيقة وأهله البسطاء، وإلى دكان البقالة ومركزيته في الحي…

4- تيمة التكافل العائلي:

من العادات المغربية السائرة في طريق الانقراض نجد تحمل الأخ الأكبر أو الأخت الكبرى، بمجرد ما يحصل على عمل، أي عمل، حتى يتحمل أعباء الأسرة ويقتسم مع والده مسؤولية نفقات إخوانه الصغار من دراسة وملبس ومأكل… مما يجعله، رغم عمله، عاجزا عن الاستقلال بنفسه وفتح بيت وتحمل مصاريف أسرته الخاصة، يحضر ذلك في الرواية من خلال شخصية خديجة أخت كمال؛ إذ بمجرد حصولها على عمل في إدارة البريد ستتحمل جزءا من المسؤولية العائلية وتصبح مفخرة للأسرة، نقرأ في الرواية: “شرعت الأسرة في البحث عن سكن جديد وتم الاتفاق على أن تسدد خديجة كراءه من راتبها على أن يكون قريبا من مقر عملها”(5)، وكذلك تفاخر أسرة اللباط بأبنائها.
يعمل الكاتب حسن قرنفل، القادم إلى التخييل من علم الاجتماع، على محاكاة العناصر المتنافرة من العالم الخارجي، ليس بغرض نقلها نقلا حرفيا، بل من أجل تركيبها وتقديمها في صياغة جديدة قد تسعفنا في معرفة العالم الخارجي الذي كان للقيام بما يشبه المقارنة قصد التمكن من كشف العالم الخارجي وإدراكه والذات الإنسانية ضمنه طبعا.
تركيب:

يستعيد الكاتب حسن قرنفل في روايته الأولى “في انتظار العنوان” سيرة مجتمع الستينات والسبعينات الخارج لتوه من زمن الاستعمار، مقدما من خلال الذاكرة صورة مصغرة عن مجتمع مغربي بأحيائه الشعبية وأطفاله المحرومين المستلبين منذ الطفولة (السينما وتأثيرها)، وناسه الأميين الذين يعاركون قوتهم اليومي بسواعد الرجال، وسياسييه المنبطحين والراديكاليين، ونسائه المتشبثات بالعادات والتقاليد وروح “التمغرابيت”… ليصل إلى مجتمع العشرينات من الألفية الثانية عبر سردية محكمة تنظر إلى الغائب عبر الحاضر وإلى الحاضر من خلال الغائب؛ أي قول الشيء عبر نقيضه.
في جملة، قد نقول دون أن نبتعد عن أطروحة الروائي المضمرة: إن “في انتظار العنوان” رثاء قاس لإنسانية المجتمع ولكاريزما السياسي، ولبراءة الطفولة، ولنزعة المجتمع الإنسانية التي عوضتها نزعة مادية قتلت فينا الضمير والرجولة والحق، وحيدت دور المثقف والحزبي الملتزم، لنصل إلى مجتمع غريب لم يستقر بعد على عنوان ملائم يصح توصيفا له.
هوامش:

-حسن قرنفل: في انتظار العنوان، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 1442هــ/2021م، ص: 51.
2-حسن قرنفل: في انتظار العنوان، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 1442هــ/2021م، ص: 10.
3- -عبدالله ابراهيم: التخيل التاريخي: السرد، والإمبراطورية، والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص: 5.
4-عبد الرحمن منيف: سيرة مدينة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1994، ص:05.
5-المرجع نفسه، ص: 05.- مقتطف من مقال مطول سيصدر ضمن كتاب جماعي محكم خاص عن أعمال الدكتور حسن قرنفل


الكاتب : المصطفى فاتح

  

بتاريخ : 25/06/2021