في بلاد المفارقات: المغرب من وجهة نظر إستيتيقية

ينتسب كتاب في «بلاد المفارقات «إلى المهندس المعماري الفرنسي موريس طرانشان M. Tranchant. ، ومعلوم أن طرانشان سبق له أن حلَّ بأرض المغرب ثلاث مرات؛ الأولى كانت ما بين 1901 و1902، والثانية تمت سنة 1908، والثالثة بين سنتي 1911 و1912، أي السنوات التي سبقت إقرار الحماية على المغرب. في خضم الحماية سيشغل طرانشان صفة مدير «مصلحة الفنون الجميلة» إلى غاية 1923، وبفضل هذا المنصب الإداري كان طرانشان مسؤولا عن تخطيط المدن المغربية الجديدة زمن الحماية الفرنسية.
عودة إلى الكتاب ومضامينه،ظهر كتاب «في بلاد المفارقات» سنة 1924، سنة بعد نهاية مهمته في إدارة مصلحة الفنون الجميلة، ومن حيث هندسته ينتظم الكتاب في هيكلة نسقية من ثلاثة أقسام مفصلة تفصيلا كرونولوجيا:
القسم الأول خُصص لتتبع «الجمال البِكر» وهي عبارة مألوفة في بورتريهات الفن الفرنسي عن مغرب ما قبل الحماية لدى القارئ، ويهتم هذا القسم بتوثيق مذكرات الرحلة الثانية التي تمت ما بين سنوات 1908 و1911. بينما في القسم الثاني الذي جاء يحمل عنوان «الجمال في خطر» فيعمد طرانشان إلى رصد حصيلة عمله الإداري كمدير لمصلحة الفنون الجميلة ما بين 1912 و1914، ومن خلاله يلتقي القارئ مع تفاصيل دقيقة للزيارة التي خصصت لمدينة فاس سنة 1912 رفقة السفير رونو الموقع على وثيقة الحماية. في أعقاب هذه الزيارة جرى تعيين المهندس طرانشان محافظا على المواقع التاريخية والآثار القديمة، إلى جانب تكليفه بإنشاء مراكز لإقامة الأوروبيين لتجنب حصول الأخطاء التي ارتكبت في الجزائر وفي تونس. طبيعي، أن يعاين طرانشان الأيام الدموية التي عرفتها فاس بعد توقيع معاهدة الحماية وتداعياتها الخطيرة من خلال ذبح الأوروبيين وإشعال الحرائق ونهب ملاحات اليهود ، وظهور انتفاضات القبائل، وعمليات إطلاق الرصاص…ويأتي القسم الثالث والأخير من الكتاب الذي حمل عنوان:»الجمال المصان» لمواكبة الفترة الفاصلة بين سنوات 1911 و1923. هنا يلتقي القارئ مع حِس الفنان لكنه لا يخلو من حكايات ومعارك مع المساطر الإدارية المعقدة التي تُصِرُّ على مسح الجمال، كما يعرض طرانشان تجربته المعمارية في إعادة تأهيل المدارس العتيقة وجرد المدارس والآثار المهددة بالزوال.
وعبر مدارات هذا التقسيم الثلاثي يُلح المهندس موريس طرانشان على ضرورة الحفاظ على الجمال المغربي بالقول: «…البلد الوحيد في العالم على بعد ساعات من أوروبا الذي يمكن للمرء أن يعيش فيه بكامل الاطمئنان بعيدا عن القوانين المزعجة…». كان من الطبيعي لطرانشان ومجايليه من المهندسين والفنانين أن يكون هذا البلد فضاء للاستمتاع بالجمال المفقود في الغرب، وممارسة النزوات في غياب الحدود.
عبر الأقسام الثلاثة للكتاب، يقف القارئ عند مفارقة إعادة بعث المغرب القديم وميلاد النظام الجديد من وجهة نظر إستيتيقية. نلتقي معه عند عمق هذه المفارقة عند حلوله بمدينة الدار البيضاء سنة 1908 سنة بعد احتلالها، وكانت المدينة وقتها كما يقول طرانشان تمثل كل نقائص القبح الأوروبي، ما جعله بوصفه فنانا عاشقا للجمال البدائي يمتعض من تلويث الجمال البيضاوي، ولم تكن فرائصه تمنع عنه الارتعاد للمصير الذي يتهدد كنوز الماضي.
في مراكش، وقف طرانشان على المقبرة السعدية الشهيرة، وقد أبدى إعجابه أمام جلالة الفضاء، حيث تظهر روعة قاعة القبور الرخامية، والسقوف المنحوتة مثل خلية نحل، والقباب العالية، والأعمدة المنحوتة…واستهواه قصر البديع المُرصع بتوابيت حجرية الشاهد على جمال طويل الأمد في الزمان والمكان. وكان قد كُلف بإقامة المقر المؤقت للإقامة العامة الفرنسية بالمغرب على رابية لا تبعد كثيرا عن القصر السلطاني، أمكنه من خلالها انطلاقا من مواد الطبيعة المغربية أن ينجزه بواسطة الأشجار المتعرشة ونباتات الزينة التي تخفي عيوب البناء. واصل طرانشان مهمته في المحافظة على المواقع التاريخية للمغرب العتيق، وضمان سلامة المدن المخزنية، والانتقال في مرحلة موالية إلى إنشاء المراكز الأوربية بظهائر المدن العتيقة في مراكش وفاس ومكناس.
في مقامه داخل المغرب، كان طرانشان يرواح بين فاس ومراكش. ففي فاس وقع اختياره على قصر الدار البيضاء وحدائق بوالجلود، وفي مراكش استقر في قصر الباهية الذي كان منزلا للوصي على العرش باحماد في ما مضى. كما عبر طرانشان مفاوز جبال الأطلس الكبير في الجنوب المغربي وتعرف على قصباته الكبرى وهندستها الحربية في كل من قصبة تلوات وقصبة تاوريرت وقصور دادس. لا يتوقف طرانشان عن ترديد كلمة «مفارقات» عبر جُل صفحات كتابه. وهي مفارقة تتصل بالتقاء حضارتين، تباعدت المسافة بينهما، المسافة هنا زمنية أكثر منها مكانية. وهي بالأساس، قضية تجاور حضارة قديمة مع حضارة جديدة.


الكاتب : ذ: مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 08/12/2023