في جو من المتعة قرأتُ فن الخطأ

 

 

يبقى الكاتب والأكاديمي المغربي عبد الفتاح كيليطو من بين الكتّاب المغاربة القلائل الذين توفر قراءة كتبهم متعة مضمونة، ومتى أتيحت فرصة اللقاء به في ندوة علمية، أو حتى مصادفته والسلام عليه في الشارع العام، يكون ذلك بمثابة الحظوة.
لأسباب مهنية، لم يسعفني الحظ، هذه السنة، لزيارة معرض الكتاب، الذي كان الأستاذ كيليطو أحد ضيوفه المميزين. وكم سرني أن أجد بعض مؤلفاته ـ وقد كان أحدها مهدى لي بتوقيع الكاتب ـ من ضمن ما اقتناه زوجي في زيارته لهذا الموعد الثقافي السنوي الهام.
وبعد أسبوع من التكاسل في اكتشاف عناوين هذه الذخيرة من الكتب، جلست أتصفحها؛ كتب في الفن التشكيلي، في تاريخ الفن، دراسات نقدية مختلفة، دواوين شعرية، روايات… كلها عناوين تغري بالقراءة. أواصل البحث والتصفح، لقد كنت كمن يبحث عن جوهرة التاج. ثم فجأة، وقع نظري على كتاب مميز، من بين آخر إصدارات صاحب «الأدب والارتياب». أقلبه، أتملى رسمة صورته، أقرأ ظهر الغلاف، أعود وأتأمل الصورة مجددا، وقد بدت لي الرسمة كمن تلبسته حالة من الندم والقلق. ترى، ما الذي يستدعي كل هذا الوجوم البادي على البورتريه؟! ولم الندم. إنه «في جو من الندم الفكري».
وكما يحدث لي دائما مع كتب كيليطو، توقفت لأتساءل عن الكيمياء السحرية التي تحفل بها كتابات الرجل؟ كيف يكتب؟ ما خلطته الخفية والعجيبة التي تجعلك ما إن تبدأ في تصفح كتبه حتى تجدك قد أنهيت قراءتها دون أن تنتبه إلى الوقت الذي استغرقه منك فعل القراءة! تنهيه بينما كنت تتصفحه. ولعل ذلك ما أعتبره لحظة السحر الأولى التي يمارسها كيليطو على قارئه.
يستهل الكاتب “في جو من الندم الفكري» باقتباسين؛ الأول للشاعر الألماني جوته، والثاني لغاستون باشلار، حدست، في الوهلة الأولى، أن عنوان الكتاب مستوحىً من صاحب الاقتباس الثاني (باشلار) وكان كذلك. ومنذ المقالة الأولى؛ وعنوانها «مقامات»، استحضرت كتاب «الغائب»، الذي خصه كيليطو لقراءة مقامة للحريري؛ وهي قراءة تنم عن قدر هائل من الذكاء والنباهة. إذ لطالما استغربت علاقة المشابهة النبيهة التي نحتها كيليطو بين أبي زيد السروجي والقمر؛ في هيئته، وفي خداعه، وفي ضبابيته.
في هذه المقالة تحدث كيليطو عن خصوصية الكتابة التي جعلها مرتبطة بنوعية القراءة، وعن الكتاب الأول الذي قرأه، معترفا بأنه في كل مرة يُسأل عن الكتاب الأول، يخترع عنوانا معينا، بما يفيد معنى البدايات في تقديره، حيث ينتقل ليشرح لقارئه أن ما يكتب يشبه المقامات، وأنه متأثر، كمؤلفي المقامات، بفكر الجاحظ وباستطراداته، يسير على خطاه في الكتابة، ولا يلزم نفسه بإنجاز كتاب في موضوع ما والمثابرة عليه والسير قدما فيه، كي لا يمل القارئ، ويمل هو أيضا. وفي ذلك يقول: « أفهم اليوم لماذا قضيتُ سنوات في دراسة المقامات، ذلك أن مؤلفيها، المتشبعين بفكر الجاحظ، نهجوا الأسلوب نفسه، وقد أكون تأثرت بهم، فكتبي تتكون من فصول قائمة بذاتها، إنها استطرادات، مجالس، أو إذا فضلنا مقامات، بكل معاني الكلمة» ص13.
يستحضر كيليطو، في نهاية المقالة، الفرنسي مونتيني، الذي كان يكتب، على حد قوله، «بالقفز والوتب»، ما جعلني أدرك، الآن، سر عنوان إصدار الباحث والمفكر عبد السلام بنعبد العالي الجديد؛ «الكتابة بالقفز والوثب»، وهو عنوان يغري، هو الآخر، بالقراءة.
باقي مقالات كتاب «في جو من الندم الفكري» تتسم، على عادة كتابات ودراسات كيليطو بالقِصر، كما أنها تتميز بدقة محتواها وبساطة لغتها، التي لا استغلاق فيها. وهي ميزة يتفرد بها كيليطو، ولا يضاهيه فيها ـ في تقديرنا ـ أغلب الكتّاب العرب المعاصرين. مقروؤه يركز على مؤلفات كلاسيكية تنتمي للأدب العربي والغربي على السواء، لكنه يخاطب قارءه بلغة زمنه، بعيدا عن وحشي الكلام وغريب الأسلوب، اللذين يلجأ إليهما بعض كتاب القرن الحادي والعشرين، طمعا منهم في نيل رضا البلاغة والبلاغيين. لا يبحث كيليطو عن التميز، من خلال توسله بلغة مقعرة تحجب الرؤيا وتؤزم التواصل بين المتلقي والنص، بل يحرص على تحقيق هذا التواصل وبأيسر السبل. يحدثك بلغة واضحة وبسيطة، ويسألك، بين فقرة وأخرى، كي يضمن تفاعلك، ويجنبك آفة الملل في فعل القراءة.
وأنا أتقدم في قراءة الكتاب، اكتشف، في جو من الندم الفكري والبوح العظيم، بعض ما يفيد طقوس كيليطو في الكتابة من البداية، كما فتح عيني عن مسار تجربته وعن مقروئه، وكشف لي أيضا عن «أخطائه»، في نوع من التبصر والنقد الذاتيين، وبكل جرأة وهدوء ونضج، وليس ذلك بغريب عمن يعتبر الخطأ مكونا أساسا للكتابة. كيف يستعرض هفواته ويعدد الأخطاء في تجربته القرائية والكتابية أمام قرائه المختلفين والمتعددين؟ إنه ينتقد كتاباته في ندم واستدراك. ولعل في هذا البوح ما يحملنا على الاستنتاج بأن الكاتب يعاني من غياب قارئ حصيف وشجاع يملك قدرا من الجرأة لنقد كتاباته، ويقف عند ما يقدّر أنه انزلاقات صادفته أثناء البحث والتمثل والقراءة. أجزم أن وجود قارئ من هذه العينة صعب للغاية إن لم يكن نادرا، ولعل في ذلك ما يذكرنا باشتراط أدونيس لضرورة وجود قراء كبار يضطلعون بقراءة النصوص الكبيرة.
يواصل كيليطو مكاشفته، وهو يستحضر عددا من إنتاجاته، حين يتوقف عند عناوينها، ثم يبدأ في استدراك ما فاته؛ جراء زهو أو انجرار وراء ثقة. ومن ذلك قوله: «لا أخفي أنني كنت مزهوا بالموازنة التي عقدتها: لا أحد ينام طيلة الليل في مقامة الحريري، وفي الليالي لا ينام شهريار ولا تنام شهرزاد ولا دنيازاد. تخيلت أن القارئ سيفاجأ بهذه الموازنة وأنه لا شك سيستحسنها، ولفرط ثقتي في نفسي أعدت عرض الفكرة سنوات بعد ذلك في رواية أنبئوني بالرؤيا» ص 18.
ما يلفت النظر كذلك في كتب كيليطو عناوينها الطريفة؛ ولطالما وقفت أمامها، في جو من الاستغراب والدهشة، وتساءلت من أين يأتي الرجل بهذه العناوين؟ وكيف يقوم بنحتها؟ وأزعم أنني صرت الآن أعرف كيفية اختيار كيليطو لها، فلقد أفشى، هو نفسه، بهذا السر. إنها في الغالب اقتباسات من غزير ما يقرأه. قد يكون عبارة في جملة قالتها شخصية في مؤلف ما، كعنوان روايته «والله إن هذه الحكاية لحكايتي»، وهو عبارة عن ملفوظ لشهريار لما فطن إلى أن حكاية الليلة الواحدة بعد الألف هي نفسها الحكاية الأولى في الليالي، وكأن شهرزاد تعزم إعادة الحكايات من جديد. فجأة يهتدي الملك إلى حقيقة الأمر فينطق بما كان يختلج في صدره بشكل مبهم: «والله هذه الحكاية حكايتي وهذه القصة قصتي». ص 77 وقد يكون العنوان عبارة عن فكرة مقتبسة من يوميات مؤلف كجملة كافكا؛ «في معظم الأوقات، من نبحث عنه بعيدا، يقطن قربنا». وهو عنوان كتابه «من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا»، الذي يسعى فيه إلى تجسير علاقات محتملة بين نصوص الليالي وأخرى تنتمي إلى الثقافة العالمية. وهو ما يعكس مدى عشق كيليطو ل» ألف ليلة وليلة» وافتتانه به، ولعل ذلك ما يفسر حضوره في كل كتاباته.
الحاصل، إن الأستاذ كيليطو، في كتابه «في جو من الندم الفكري»، يكشف لنا عن صوت آخر من ضمن أصواته المتعددة، أعني صوت الناقد لأناه، كما تجسدها أعماله وتجربته ومساره في القراءة والكتابة والتأويل، وبالشكل الذي تقدمه دراساته لنصوص شعرية وقصصية وحكايات وسرود قديمة في تقاطعاتها مع باقي المدونات الأدبية والثقافية الأخرى في العالم. إنها لحظة مكاشفة رفيعة لا تقف عند حدود استفادة الكاتب من مقروئه الغزير، وإنما أيضا، الكشف، بشجاعة، عما اعتبره لحظة تسرع أو ثقة زائدة بالنفس، كان له أثر غير مقصود على بعض دراساته. وفي تقديرنا، إن ما «ندم» عليه الكاتب يكاد يشكل لحظة الإدهاش الكبرى، التي أخذت بلب العديد من قرائه، إن لم يكن معظمهم، وصاغت جانبا أساسا من حسهم النقدي. وبذلك يكون الأستاذ كيليطو قد حقق أثرا مضاعفا في قارئه من خلال لحظتين تاريخيتين مختلفتين، الأولى بما تمثله من نتاج توصلت إليه حصافة الباحث وثقته الكبيرة بنفسه، والثانية تولدت عن لحظة مراجعة هادئة لما تراكم في اللحظة السابقة ونتجت عنها كتابة جديدة. وفي كلتا الحالتين أو اللحظتين نستشعر نوعا من التمويه واللعب الذي يمارسه الكاتب على قارئه، وتلك إحدى هوايات هذا الكاتب المجدد.


الكاتب : خديجة البوعزاوي

  

بتاريخ : 29/07/2022