في حوار مع المترجم المتخصص في الأدب الروسي، يوسف نبيل.. الأدب الروسي مفرط في إنسانيته، و الأسئلة الدينية والوجودية عماده

 

من البداية شغل الأدباء الروس مكانة اجتماعية مرموقة، وكان الشعب يتعامل مع رموزه الأدبية العظيمة تعامله مع أنبياء العصر الحديث. في هذا الحوار مع المترجم يوسف نبيل بساليوس، يتحدث نبيل عن عشقه للأدب الروسي وإقباله على الترجمة بشغف كبير لأنها الدليل الأكبر على المشترك الإنساني.

p لماذا هذا الاهتمام وهذا الزخم في الترجمة إلى العربية؟
n يرتبط الأمر في الأساس بي كقارئ يود أن يقرأ هذه الكتب، وبالتالي أُقبل على ترجمتها لأقرأها بشكل أفضل . القارئ العادي يقرأ العمل كمن ينظر إلى بناية جميلة، بينما تشبه قراءة المترجم للعمل من ينظر إلى أساسات البناء ويعرف كيف تم تشييدها بدقة. منذ أن كنت في المرحلة الثانوية عشقت الأدب الروسي، وبالتالي، وددت لو أترجم المزيد والمزيد من الأعمال الروسية، ومن أفضل ما حدث في حياتي أن أصبح شغفي هو عملي، واستطعت الاعتماد عليه كمورد أساسي للرزق.

p الأدب الروسي إلى العربية وفي هذه المرحلة تحديدا ، هل من توافق؟
n توافقَ الأدب الروسي بصورة هائلة مع ذائقتي كقارئ، وحدث الأمر ذاته مع آلاف القراء. الأدب الروسي مفرط في إنسانيته، كما أن الأسئلة الدينية والوجودية تشكل عماده، وبالتالي تقاطع هذا معي بشكل كبير. لا تتعلق الترجمة بمرحلة واحدة زمنية، بل تصلح الأعمال الإنسانية العظيمة للقراءة في كل زمان ومكان إلى حد كبير، بل تُقاس مدى عظمتها بقدرتها على الانتشار عبر فترة زمنية طويلة وبقعة جغرافية واسعة، لأن هذا يدلل على مدى المشترك الإنساني الحقيقي فيها.

p إلى أي مدى تعتبر الترجمة عن الروسية إلى العربية دقيقة مخلصة وبريئة؟
n الأمر في الروسية كما هو الأمر في كافة اللغات؛ بمعنى أن لدينا مترجمين يترجمون ترجمات رائعة عن الروسية، ولدينا من يقدم ترجمات هزيلة وغير مخلصة. يعتمد الأمر على مدى إخلاص المترجم ومهارته، كما يعتمد أيضًا على مدة اهتمام دار النشر وتدقيقها في اختيار المترجم القائم على العمل، لذا لا يسعنا إصدار حكم خاص بالروسية دونًا عن جميع اللغات.

p ثمة رأي يقول « أن تؤلف كتابا أسهل من ترجمته 10 مرات ؟ ما رأيك؟
n رأيي هو العكس. في الترجمة تنطلق من شيء موجود سلفًا، وينحصر دورك في المناورات التي ستجريها لتعالج هذا العمل وتتغلب على مشاكل نقله إلى العربية، أما التأليف فينطلق من الصفر، وما أصعب خلق عمل من لا شيء! في عملية التأليف عادة يستغرق الكاتب فترة طويلة في التفكير، وفترة أقل في الكتابة ذاتها، وهذا غير موجود في عملية الترجمة، حيث يبدأ المترجم من عمل موجود ولا يختلقه من فراغ.
الترجمة أم التأليف، ما الأقرب إلى روح نبيل يوسف ؟
العلاقة بينهما معقدة. بدأت ككاتب، وتلخصت أحلامي في فترة الصبا في أن أصبح روائيًا مهمًا. رغم تأخر عملي بالترجمة عن الكتابة ،لكني حققت نجاحًا في مجال الترجمة أكبر وأهم كثيرًا مما حققته في الكتابة، لذا أشعر بالرضا الشديد عن عملي بالترجمة، وفي الآن ذاته تمنى جزء بداخلي لو حققت هذا النجاح في الكتابة أكثر من الترجمة. في المرحلة الراهنة أشعر تجاههما بالقدر ذاته من الحب، وأشعر أن الترجمة تساعدني كثيرًا ككاتب من حيث ما تضيفه إليَّ من اهتمام لغوي شديد، ويفيدني عملي بالكتابة بشدة في الترجمة من حيث إمكانية الوصول إلى المدخل الملائم لكتابة النص بالعربية، متحريًا أقرب الطرق التي تربط بين النص الأجنبي والعربي.

p الأدب الروسي عميق، ويهتم بأدق التفاصيل وأحيان التافه منها ، ما مؤشرات هذا السمة في تقديرك؟
n يتسم الأدب الروسي بعدة سمات تميزه نسبيًا عن بقية الآداب؛ الأولى أنه يحمل همًا اجتماعيًا ويرتبط به بشدة، حتى إن بوسعنا أن نقول أن أعماله العظيمة كلها تقريبًا تتمحور حول محاولات الإجابة عن بعض الأسئلة من قبيل: ما العمل؟ ماذا علينا أن نفعل؟ من المذنب؟ ولا نتعجب إذن من اشتراك العديد من الأعمال في هذه العناوين. لدينا مثلا كتاب ومقالة لتولستوي بعنوان يقترب من الثاني، ولدينا رواية لجرتسن وقصة لتشيخوف بالعنوان الثالث… إلخ. السمة الثانية أنه أدب روحي وديني من الدرجة الأولى، وربما هذا تحديدًا ما يجعله قريبًا من المزاج العربي والشرقي بوجه عام. من البداية شغل الأدباء الروس مكانة اجتماعية مرموقة، وكان الشعب يتعامل مع رموزه الأدبية العظيمة تعامله مع أنبياء العصر الحديث إن جاز التعبير. البعض منهم حمل رسائل دينية بالفعل كتولستوي، وتمتع الكثيرون من الأدباء الروس ببصيرة ثاقبة من فرط ارتباطهم الشديد بالواقع الروسي، جعلتهم يتنبؤون بصور عدة في نهاية العصر القيصري بالأهوال والآلام التي سيلاقيها الشعب الروسي، وهذا ما حدث فعلا مع اشتراك روسيا في الحرب العالمية الأولى واندلاع الثورة البلشفية وأهوال الحكم الشيوعي ثم مجازر الحرب العالمية الثانية… إلخ. لا ريب أن ثقل كل هذه الأحداث التاريخية قد كتب الغلبة للاتجاه الواقعي في الأدب الروسي

p هل من وصفة لاستمزاج القارئ العربي لمعرفة انتظاراته في القراءة ، ونوعية ميوله لهذا الأدب أو ذاك؟
n الحقيقة أن الناشر أقدر من المترجم أو الكاتب على معرفة هذه الوصفة، بحكم انخراطه المباشر في عملية بيع الكتب. ينتج عن ذلك مفاوضات مستمرة بين الناشر والمترجم، حيث يود الناشر عادة أن ينشر كتب مضمونة الربح ويُقلل من درجة المخاطرة، بينما يود المترجم أن يخوض آفاقًا جديدة في الترجمة ويترجم لأسماء جديدة. ميل الدفة المستمر تجاه الناشر يؤدي إلى إعادة إنتاج أعمال بعينها والإحجام عن تقديم أسماء جديدة ومجهولة، وبالتالي يضر هذا بعملية المعرفة، بينما الميل غير المدروس تجاه اختيارات المترجم بشكل دائم قد يؤدي بدار النشر إلى الخسارة المالية الشديدة مما يهدد عملية النشر كذلك، لذا لا بد من التوازن ومحاولة إيجاد صيغة من النشر والتعامل تتيح للناشر تحمل مخاطرات جديدة في النشر، كما يتوجب على المترجم أن يركز حصرًا في التعرف على أهم وأجود الأعمال من وجهة نظره، بغض النظر عن حسابات السوق، لأن تورطه كمبدع مسؤول عن ترجمة الكتب في حسابات السوق، سيفسد دوره ويؤدي به إلى الإفلاس الإبداعي.


الكاتب : أعد الحوار وقدم له : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 05/11/2020