في لقاء استضافته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد .. محمد بنيس: أنا لاشيء، أنا صاحب قلق وشك

الجنون مدرسة سرية صامتة، تعلمنا الحرية والجرأة

 

كيف نتمثل صورة الشاعر الحديث؟ ما أدواره؟ وكيف يكون للشعر دور في رؤيتنا للعالم، وفي تعلمنا وفي ذاكرتنا ومخيالنا الجمعي في وقت تتعاظم فيه ثقافة الابتذال والتسطيح التي تمرر عبر إعلام المال والسلطة.
تلك الأسئلة المنصبة حول مكانة الشاعر والشعر اليوم، ومن ثمة مكانة الأدب اليوم في مجتمع مشغول بعطبه، وبحياته اليومية الصعبة وبانتكاساته ، وبالعدوان الذي يمارس على قضاياه الأساسية، شكلت أهم محاور اللقاء الحواري الذي احتضنته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، أول أمس السبت 28 أكتوبر الجاري بسلا ، مع الشاعر والكاتب محمد بنيس، بمشاركة وتسيير رئيس المؤسسة الشاعر محمد الأشعري ..أسئلة تناوب على إثارتها كل من المترجم والأكاديمي عز الدين الشنتوف، الجامعي والمترجم محمد جليد، الشاعر والكاتب حسن الوزاني.

في لقاء حواري حضرت فيه قيم الصداقة والإنصات والشعر والاحتفاء بالكتابة وخيمت على فقراته سحابات حزن وألم مما يحدث في فلسطين اليوم من اعتداء سافر على الحق في الحياة وسط صمت دولي كشف فيه الغرب عن وجهه القبيح، اعتبر محمد الأشعري أنه احتفاء بالكتابة باعتبارها شكل ومضمون حداثتنا المؤملة، باستحضار نصوص ورؤى وقضايا كانت دائما في قلب التجربة الشعرية لمحمد بنيس، مفكرا وشاعرا مجربا ومحاورا، هو الذي اعتبر الشعر في جوهره يتعدى كونه كتابة الى كونه اختيار حياة، واعتناقا صبورا لفكرة التقدم «لأن ما من شيء، حسب الأشعري، يشحذ قدرتنا على النقد والمساءلة ، وعلى التفكير في المستقبل، والابتكار المستمر للحرية ومقاومة الجمود أكثر من الشعر، كممارسة وكوعد».
وأضاف الاشعري، وهو يستحضر ما يحدث في غزة اليوم،أن « القضية الفلسطينية غذت الكتابة في جيلنا، ونصوصنا تتغذى دائما منها ومن الثقافة الفلسطينية، التي وصلتنا عبر اجتهادات مثقفين وفاعلين ثقافيين ومجلات ثقافية، ولا أظن أن أحدا من جيلنا لم يتخرج من هذه الجامعة الموازية: فلسطين».
وفي استرجاعه لتجربة جيل السبعينات الشعري بالمغرب، قال الأشعري إنه محمد بنيس « يكاد يتفرد باختيار الثقافة، وحدها، أفقا أساسيا لتفكيره ونضاله دون أن يثنيه هذا الاختيار عن اعتناق القضايا الوطنية الكبرى في بعدها الحقوقي والإنساني في مرحلة اتسمت بانسداد الأفق الديمقراطي وبالالتباس، كان الشاعر خلالها «يخطو فوق التربة الساخنة بكثير من الانتباه والمجازفة».
وفي كل هذه القضايا، ظل بنيس يدافع عن رأيه في مكامن العطب المغربي الذي يلخصه في كونه «عطبا ثقافي»ا قياسا على أن الحداثة التي حاول المثقفون المغاربة بناءها سياسيا، لم يسبق لأي تجربة إنسانية أخرى أن بنتها خارج دائرة «الثقافي»، وهو ما يجعل من تأمل صورة الشاعر في المغرب اليوم ضرورة تتقرى أدوار ومكانة الشاعر، والوعود التي يضعها على نفسه وعلى مجتمعه باعتبار الشعر فعل مقاومة ضد المحافظة والاستبداد حتى وهو، يقول الأشعري، «يشتغل في مناطق الظل أو يعاني العزلة والحصار». ومن هنا، فإن «صورته اليوم هي صورة حريته المستحقة بالكتابة أو المصادرة بعوائق الطريق».
إن استحضار التجربة الشعرية في المغرب يستدعي التوقف عند أصواتها ولغاتها، كما عند تصادياتها مع الشعرية العربية والغربية، تصاديات لم تلغ النقد من حساباتها، و»لم تمنع من انبثاق الصوت الخاص الذي قام على تجاور تجارب تلتقي فيها أصوات متعددة «(المجاطي، خير الدين، لمسيح، النيسابوري، راجع، الكنوني…) رغم أن لكل صوت فرادته ورهاناته الشعرية والجمالية، لكنها أصوات تجمعها «آصرة الأخوة الشعرية» على حد تعبير محمد بنيس، وهي تجربة أثرت الثقافة المغربية من خلال مبادرات عديدة قادتها على مستويات عدة: المؤسسات (بيت الشعر)، أو المجلات (الثقافة الجديدة) أو دور النشر (توبقال)، (مهرجان شفشاون للشعر الحديث).
وفي خضم كل هذه المبادرات برهن محمد بنيس على إخلاصه للشعر بقصيدته وباجتهاده الفكري ودرسه الجامعي وبسجالاته ، بصداقاته الشعرية عبر العالم وأيضا بخصوماته الشعرية، برهن على أن» الشاعر نوع من المثقف الشامل ينبغي ألا تضعف كثافته ولا توتره ولا انتباهه الدائم لالتقاط باطن اللعبة وظاهرها.»

أنا لاشيء

عن مساره الإبداعي أو الفكري الكبير، يرى محمد بنيس أنه في المحصلة «لاشيء»: «لا أريد شيئا. أنا لاشئ، وكلما درست وتعرفت أكثر، ازددت اقتناعا بضآلة ما أفعله»، مضيفا أنه ضد نفسه منذ» بيان الكتابة» ولا علاقة له بأي سلطة، حتى الشعرية، لأنه صاحب قلق وشك.
أما عن صورة الشاعر اليوم، فقد رسم محمد بنيس صورة أقرب الى صورة الشبح المخيف الذي نوصد الأبواب في وجهه لأننا «ورثنا صورة عن الشاعر التقليدي وهي التي لا تزال توجه رؤيتنا الى الشاعر الحديث، صورة تبعث على الخوف وتجعلنا تمنع عنه حق الإقامة في المدينة»، ولهذا ظل غريبا ، تلك الغرابة والغربة التي تصدر عما يكتبه وفق إحساسه باللغة والأشياء والكون، بما يجعل القصيدة مركز ممارسته النصية، التي في تقاطعه معها، يبحث ويفكر ويكتب نصوصا تصبح مفتوحة على كل الأجناس الأدبية، ممارسة تدخل في باب «تجربة المستحيل»، وتجعل شاعر اليوم» يخرج عن نمط شاعر البديهة والارتجال أو الشاعر الذي يرى في تعدد ممارسته النصية نفيا لشعرية القصيدة، ويختار بذلك صورة نقيضة لصورة الشاعر الموروثة، مسافرا نحو تجربة يقف فيها على حدود وتخوم الخطر»، إذ تتخلق في كتابته لغة مسائلة، حالمة، صانعة لعوالم الدهشة، وقابلة بالنقصان وباللانهائي الذي يبقى لانهائيا أبدا.

منفى اللغة

يرى بنيس أنه لكي نبدع في عالمنا الصغير لابد أن نقاوم منفى اللغة، لا بنسيانه بل بالتشبث بالإبداع الصعب . فالكتابة تمنحنا الحرية اللامحدودة التي ليس بإمكان أحد انتزاعها منا، و»عندما نصل الى هذه العلاقة، نتحرر من منطق المنفى»، معتبرا أن أجمل ما تعلمه من الثقافة العربية والكونية هو أن الشعر فيه زمن واحد هو الحاضر ، شعر لا علاقة له بالدين، مؤكدا على أنه لا يمكن بناء المعرفة على عقائد، سواء كانت دينية أو وطنية.
ولأن اللحظة تفرض سلطتها الرمزية والإنسانية، فقد استفاض ضيف مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد في الحديث عن كتابه «فلسطين ذاكرة المقاومات» ، الذي لو يعتقد يوما أنّه سيكتبه، رغم إصراره الدائم على تجميع ما كتبه عن فلسطين ، إلا أن ما حرك هذا المشروع وسرّعه هو إعلان ترامب مشروع»صفقة القرن»، مضيفا أن الإشكال الذي واجهه بهذا الخصوص كان في الاسم «فلسطين» المهدد بالزوال وقد جاء الكتاب كما أراده «لانهائيا مفتوحا» فيه جماع أصوات مثقفين أخلصوا للقضية.
ولم يخل الحديث من جنون بنيس، الذي عايش تجربة الجنون المحيط به في فاس بمجاذيبها ومجانينها، معتبرا أن الجنون»مدرسة حقيقية» تعلم منها «حرية العبارة والجرأة والمفاجأة، وأن شخصية المجنون هي الشخصية الواقعية الإنسانية التي تحمل العمق الانساني، حتى في صمتها».

 

 


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 30/10/2023