في ليلة القدر : أتلو الشعر وأصلي ، ووجهي في النهر ويدي في البياض

كتبت الشعر وأنا حديثٌ في السن، وتربيت تربيةً روحية في أسرة محافظة، تؤمن بالوسطية والاعتدال. بِكَنَفِ والديَّ، وسط أربع بنات وأخ والجدة والعمة. وكنا عشرة أفراد نعيش في طمأنينة وحفظ مولانا بقناعة لا تفنى، وفي أجواء عشق صوفي.
تعلمت روح الشعر من حضن الأب والأم، ومن إخوتي وجدتي وعمتي. وكانت اللغة هي بيتنا والقرآن والأذكار نبع استقرار روحنا، وسقفنا الذي يحمينا ونحن جَلوس إلى مائدة خبز وإدام تراتيل العشق الصوفي.
وتعلمت من الأب والأم أن الشعر الذي علي أن أكتبَه هو مخاطبة الانسان لمولاه خالقه في هذا الكون، وأن الشعر موهبة، ومجهود، ومعرفة، وصبر وسهر ليالٍ من أجل الاستمرار وتحقيق النجاح..
وتعلمت منهما أن الشعر ذوقٌ وجمال وإبداع كما مثلَ عطفهما الأبوي ورعايتهما لي حتى أصل إلى يقين المعاني ومجاز العبارة.
الشعر عندي ليس معادلة رياضية أو صنعة لغوية أو رغبة عابرة.
الشعر عندي تجربة ذاتية وروحية. به يركع القلب وتسيل من معانيه دمعة .. ومن صفائه نغمة وابتسامة. إنه فصولي الأربعة التي قد تمر دفعةً واحدة في رمشة إشارقة روحية،وفي صورة بيانية مدهشة.
الشعر هو غذاء الروح وشفاؤها ..
وبعد،
بدءاً من ديوان «صاحبة السّعاد»ة وبعده ديواني «برزخ الأصفياء» وصولا إلى ديوان «وجهي في النهر ويدي في البياض».
أقول لكم بكل صدق إنّ تجربتي الشعرية عرفت نقلة جديدة تحولت فيها الكتابة إلى مديح للأم والأب وأقول عنهما :
أنتُما النّهْـــرُ العَظيمُ
وضِفَّـــتــانِ مُتَجــــاوِرتانِ في بَــــدَنِــــي .
نُورُكُما أُبْصِرُهُ في رَواسِي الجِــــبال .
صُـــورَتِي صُوَرَتُــــكُـمــا. أَنْتُما أنا.
أنتُما إشْراقَـــةُ مَوْلايَ في الْقَلْبِ..
وأَنْتُما النَّهْرُ الْعَظِيمُ
وضِفَّــــتـــانِ  في بَــــــدَنِـــــي.
****
«وجهي في النهر ويدي في البياض» هو سيرة شعرية لتجربة مريرة، كتبته إلى كل الأصفياء المقيمين في روحي وخيالي، وألهموني وجعلوني أبحث عن النور فيهم وأستضيء بالمعرفة، والمجاهدة وقضاء ساعات وأيام في الاشتغال على هذا العمل الشعري الذي  كتبته بروحي ودموعي التي كنت أخفيها عن المقربين مني .
وكما كتبت للأصفياء، أكتب لهؤلاء الذين أياديهم علي كالبياض في النهر حينما أصافحهم وأعانقهم بقلبي كالشمس وهي ترسل لنا نورها الكوني.. وأكتب للذين يفرحون بقدوم المطر وبظهور أول الثمار وهي ناضجة، وللذين في عيونهم الفرح والسّعادة ويهدونها للناس بسخاء .
أكتب عن صديقي  الجبل. كما أكتب للنهر الذي يجاور بيت الشعر. فهذا النهر العظيم لانهاية له دائم الجريان والإلهام. وأكتب للطير الذي تعلمت منه المنطق، كما تعلمت الحكمة من النملة التي تدب كقطرة حبر في كلمات وسطور .
ولهذا لما أكتب.. أكتب كأني نمل  أو طير ينقر في نبع من فيض الأشواق .. وجاء ليحوم في الكون ويقيم في أعلى جبل رؤوم عطوف .
****
الأم كانت ملهمة لي وستظل ملهمة ..
الزوجة ملهمة لي
وأبنائي ملهمون لي
علمتني الأم كيف أكتب عن غيابها وحضورها، وكيف أعشق امرأة واحدة هي الأم والحبيبة بكل جوارحي وكيف يكون عشقي صوفيا …. العشق يا أصحابي تربية روحية تُكتب في لوح صدورنا ولا يمحوها الزمن، هي كالنقش على القلوب.
ولهذا فالشعر حياتي.. كما الأم حياتي .. والكتابة هوائي .. ورئتي .
مصادر إلهامي روحية .. لذلك لما أعود إلى نفسي أكتب وأنا في مزاج متدفق بالإشراقات والشذرات.
وهذه الإشراقات هي انعكاس لشمس الروح المنيرة في كوكب القلب والوجدان، وكل الحواس المتبصرة في القول وفي الذوق.
ديواني «وجهي في النهر ويدي في البياض» هو ترجمان لحالات الحزن والقلق والألم، وأيضا لحالات كثيرة من الصفاء الروحي.. هذه كلها أسباب تدفعني لأكتب قصائد عن الأب والأم والأصفياء .
ولأن تاريخ الانسانية مليء بالقلق والفقدان،  فقدت أمي وبعهدها بسنة واحدة فقدت أبي وأصبت بانهيار نفسي.
كنت سأختار عزلة أبدية.. وأقيم في محرابها .. لكن بفضل أصدقائي والمقربين مني تخطيتُ ألمي لأخرج من عزلتي.. وأكتب قصائد تنبع متدفقة من روحي ومن إحساسي وألمي . وكانت لغتي منقوعَةً في مدادِ حالتي. وروحها الصدق والمجاهدة.

لم أعتزل الناس .. أكتب من الألم الذي أحسه ومن الغياب من الفراق ،
الشعر حياتي التي تجعلني أحلم وأعيش اللحظة رفقة أرواح نورانية .
الشعر إبداع قد تراه في صورة، وقد تقرأه بعينيك وبقلبك.. هو مشاعر خاصة وذاتية..

ولا زلت أذكر والدي رحمة عليه الذي كان فقيها وحافظا لكتاب الله لما كان يقول لي «: كل معاني سور القرآن تتجلي لي ..»
****
تركت كل الدنيا يامولاي ..
وجئت إلى بابك يا الله
للصلاة بقلبي ودمعي على فراق أبي وأمي
أدركت لذة العشق الروحي والصوفي
الشعر هو الذي ينفذ إلى أعماق .. أعماق روحي
الشعر حضارة تبني الكونَ الحق.
الشعر عندي ليس كلمات فقط .. إنه صوتُ الروح وخفقانها
الشعر هو السفرُ في المنتهى والمدى
الشعر هو العزلة التامة في منابع قريبة إلى الروح، والدخول إلى كون يتدفق بالرؤى والموسيقى التي تسمو بنا إلى المعراج الذي نقبض على رؤاه .

***
اشتغلت عليه بشكل متكامل في ثيمة واحدة، وخيط ناظم . كتبته بكل جوارحي وروحي مادام القلم عنوانا للشريان، والأصابع التي تضغط على الكيبورد هادية لي نحو أسرار اللغة. فتصير الكتابة طاقة روحية محملة بالواقع فتعجنه وتطرزه بصيغة خيال.
وأنا أخفي دموعي في عزلة مابين النهر وظلال الروح، كتبت عملي الشعري مداهما بعزلة إرادية وبغياب وبفقدان أليمين . ماتت الأم- العتبة – التي كنت أتوسد أفياءها وشجرها وإلهامها، ومات الأب بعدها بسنة متأثرا بمضاعفات فيروس كورونا، وكان الوالدان كل شيء في حياتي، هما العمودان اللذان كنت أستند عليهما .
ورغبت أن أكتب، وأكتب لأتملى صورهما وروحهما حتى لا تغيب شمسهما عن روحي، وتظل روحهما في شموخ.
لقد علماني الثبات والوسطية والاعتدال، والحب وكل مضامين تفسيرات الجمال، ومعاني الحروف للسمو بها في جلال روحي وصوفي.
فالأوجاع والانكسارات غيرت  مجرى حياتي، وغيرت أيضا، تجربتي الشعرية في معانيها ورؤيتها للأشياء والوجود.
وجدتني في اشتغالي الذي دام سنتين على عملي الشعري الموسوم بـ «وجهي في النهر يدي في البياض» أرتقي بالكائن الواقع إلى الممكن الشعري الحالم الأبهى جماليا وإنسانيا .
قاسيت كثيرا بفقد الأبوين، وكنت أداري وأخفي دمعتي وما قاسيته، تحت جوانحي بسطور الحبر.
هذا ما ترجمته لغتي التي فاضت في الذات الشعرية الموغلة بلغة صوفية شفيفة، تنتصر بالبياض والماء رمزين للحياة الجميلة كما كنت أراها .
وأنت تقرأ العمل الشعري، ستجد ثيمات الإيمان والأمل والأمومة، والأبوة والوفاء والمطلق، بلغة تفتح أفق الشعر على الصفاء والمطلق .


الكاتب : عبد الحق بن رحمون

  

بتاريخ : 09/01/2024