في معنى العزلة

 

العزلة لصيقة ـ في الأغلب الأعم ـ بالتفكير والتأمل والاستبطان. وهي معطى نفسي ووجودي، واختيار أنطولوجي جذري مفكر فيه، وأحيانا مدفوع إليه.
وهي سانحة ذهبية، وفرصة استكشافية لتأمل الذات، وقراءة متأنية في مجريات الأحداث اعتبارا من مسافة متعينة ضرورية تتيح الفهم العميق، والإدراك السابر الدقيق في أفق بناء رأي وموقف وتصور لا يطولها العَوَرُ، ولا يتلبسها التسرع والارتجال، ولا المداهنة والمحاباة، والبيع والشراء. وبهذا، فهي حاجة أنطولوجية نتغياها ونحتاجها، واختيار ذاتي عبر/ اجتماعي، واجتماعي في الآن ذاته. إنها تفضي إلى الدخول ثم الخروج، ما يعني: اعتصار نبضات الفكر، واستقطار ذوب الحدس والوجدان من أجل التصالح والتصافي والتواد مع النفس( مع الروح والجسد)، بما هي / هما: أنا وموضوع. فالخروج من الأنا ( الأنا، هنا، بمعناه المفارق المختلف لا بما يحيل عليه من أنانية ونرجسية وانغلاق )، إلى الشارع العريض، والفضاء العام، إلى الآخر الصديق الحميم، الشبيه المحتوم، بل إلى الآخر «العدو» حتى.
والعزلة ليست، دائما، وكما قد يتبادر إلى الذهن، محبسا مختارا، أو انحشارا في برج عاجي معتبر ومُصْطَفى، ولا إقامة داخل قصر قروسطي منيف وساحر تكتنفه الغابة والأشباح. إنها، أيضا، خروج للفسحة وللتجوال الماتع بين الأحراش والجبال المُجَلَّلَة، والبراري الفيحاء، وعلى ضفاف الأنهار المُتَبَتِّلة. فمن الشعراء والمفكرين والفلاسفة والموسيقيين من اختار دارةً أو منزلا، أو كوخا فيه يتأمل ويكْرِزُ، ويكتب ويؤلف ويبدع. ومنه يطل على الخلق، على الوجود والموجودات لا بما هو متعالٍ فوقي سماوي، والغير ترابي رُغامي وأرضي منحط، بل بما هو مستغرق ومستبطن ومبتكر ما فيه الخير والجمال والحق والعدل للإنسان مطلق إنسان. فقد حبس شيخ المعرة نفسه، وابتعد عن الاختلاط والمخالطة، مؤثرا التنسك والتوحد حتى أتى بما لم تستطعه الأوائل ولا الأواخر شعريا في تقديري. ومثله فعل شعراء آخرون أفذاذ، ومفكرون وساردون هائلون كالفرنسي مارسيل بروستْ، وغوستاف فلوبيرْ الذي وصف نفسه في عزلته بالدب الأبيض، ووحيد القرن، وما شئت من أوصاف الحيوان المتوحد، بالرغم مما أتاه هؤلاء من بديع الشعر، ورفيع السرد، وعميق الفكر. وقس عليهم فرانز كافكا، وبيسوّا، وموريس بلانشو، الخ. وَفَضَّل معتزلون أو اعتزاليون آخرون المشيَ والتجول لساعات طوال، وأيام غير معدودة، وأشهر لا تحصى. فسُمّوا بـ: المشائين المتجولين الذين كان الإلهام يأتيهم طوعا وهم بين أكناف الطبيعة، محفوفون بالحفيف والرفيف، والخرير، والتغريد، تظللهم سماء لازوردية فاتنة، أو سماء غائمة تندف قطنها الأبيض الرمادي لهم تحية لعبقريتهم، وتُقِلُّهم غبراءُ تخضر وتزدهي بخطاهم كلما مشوا فوق ثراها، وجَفْجَفوا أديمها بناعم وَسَنِهِم عليها، وتمددهم فوقها. وسنكتفي بذكر بعضهم ممن طارت شهرته، وطبق ذكره الأمداء والآفاق. فهذا الفيلسوف كانطْ المَشَّاءُ المستهام بالزمن والتاريخ والأبد، دَبَّجَ ما دَبَّج من ثاقب الفكر، وعظيم الرأي من خلال ما ألهمه خروجه اليومي المبرمج الدقيق ملفوفا بوحدته وسموه. وهذا شوبنهاور الهائل المشّاء المعتزل إلا من نايه وكلبه اللذين كانا رفيقين أثيرين لديه بعد أن انفض الصحب من حوله، ولم تُراعَ عظمته الفلسفية في إبانها. وذاك نيتشهْ العظيم الذي هام بالتجوال في الطبيعة حتى قال: ( الجولة هي تلك العزلة التي تفكر. الأفكار أجساد تمشي. وأن تظل مشدودا إلى كرسيك، خطأ فادح يخالف العقل. إن الأفكار التي تنثال عليَّ ماشياً، هي وحدها الأفكار التي تستحق الاعتبار).
وذاك الفيلسوف هيدجرْ الأكاديمي الفذ الذي اختار لنفسه كوخا وسط الغابة السوداء ، يلوذ به بعد المحاضرة والتدريس، مفكرا في مصير الفكر والبشرية والتكنولوجيا. يقول: ( وحدها الغابة السوداء ملهمتي ). وكان الروائي الروسي الكبير ليون تولستويْ ناسكا غابويا، مفتونا بالمزارع والبراري. ومنها وبفضلها، أبدع رواياته الخالدة. ولنا أن نشيرـ في معرض سوق الأمثلة ـ إلى الموسيقي العظيم بيتهوفن الذي احتضن صمَمَه وقدَرَه بإٍرادة وعزم العباقرة الاستثنائية، وانقطع إلى الطبيعة التي منحته أروع السوناتات والسمفونيات وعلى رأسها: السمفونية التاسعة، السمفونية الأعظم في تاريخ الموسيقا الكونية.
لقد كتب الفيلسوف الفرنسي جيلْ دولوزْ، مؤكدا ما ذهبنا إليه، يقول: ( السحرة الكبار هم أبناء الغابات العميقة ).
وإذاً، بهذا المعنى، تكون العزلة أخت الوحدة لا التوحد والوحدانية، إذ أن هذه الأخيرة شيء آخر تماما. ومع ذلك، فلا وحدة ولا عزلة بإطلاق. فالواحد ، أينما كان، وحيثما حل، هو ـ دوما ـ اثنان. المونولوغ ثانِينا، يفتح معنا ديالوجاً، حوارا داخليا مثيرا يتيح أن نتدفأ بنا، أن نكلم أنفسنا، أن نشتق منا مرآة ترانا ونراها: صافية مجلوة غير مُحَدَّبَة ولا مُقَعَّرة.
لا يعدل المعتزل إلا المتعبد بالمفهوم الانقطاعي الذي هو، أيضا، بشكل أو بآخر، اثنان أو أكثر، يتسمع النداءات العلوية والأرضية في التنسك الصوفي بما هو حقيقة، وفي العبادة الدينية الطقوسية بما هي واقع، وعمل ناجز. أما الفرق فيكمن في أن الأول دنيوي غير منفطم عن أشباهه وأمثاله، بينما الثاني ربَّاني أُخْرَوي منفصل عن ومتصل بطينته، وما كان في حساب ووارد معدنه وطريقته.
في العزلة، سواء أكانت بالمفهومين معاً، أو بأحدهما: تَخْضَلُّ الرؤى، وتنبسط الأفكار، وتتحرر الروح ، ويشتعل العقل، وتفيض الحكمة واللغة، الشعر والفلسفة، الأخلاق والقيم الإنسانية الكبرى، الرسم والتصوير الفاتن، والموسيقا والألحان العبقرية.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 02/09/2022