في مغامرة رضوان احدادو الجديدة ..«احتفالية الموت.. احتفالية الحياة في وصلتين»

بالكثير من عناصر الجرأة، وبالكثير من أدوات التجديد، وبالكثير من ثمار العشق، وبالكثير من جرعات الوعي بمهاوي الانكسار، وبالكثير من ورود الحلم،… يتابع المبدع رضوان احدادو مغامرته الجميلة مع عوالم الركح، تأليفا وتنظيرا وتوثيقا واحتفاءً. لقد استطاع هذا المبدع الكبير أن يحقق تراكمات نوعية في مجال عطائه المسرحي، من مواقع متعددة، وبانشغالات متداخلة، وبآفاق رحبة أثمرت منجزا هائلا على مستويين مركزيين اثنين، يرتبط أولهما بالانخراط في مغامرة التجريب عبر إنتاج نصوص احتفالية رأت طريقها إلى النور، مثلما هو الحال مع نص «الأرض والزيتون» (1979)، ونص «في انتظار زمن الجنون» (1985)، ونص «أهل المدينة الفاضلة» (1998)، ونص «زمن مضى ولم يمض» (1999)، ونص «البحث عن متغيب» (2001)، ونص «الحافلة رقم 3» (2002)، ونص «طارق الذي لم يعبر» (2011)، ونص «المتنبي يخطئ زمانه» (2012)، ونص «الباب والرأس» (2014)، ونص «تيرينا والملاك الصغير» (2015)، ونص «المشاء أو الأراجيح تحلق عاليا» (2018)،… ويرتبط المستوى الثاني لاستقراء عطاء الرائد رضوان احدادو باستحضار الدور الكبير الذي اضطلع به في تصديه لكتابة تاريخ المسرح بمنطقة الشمال، ولإنصافه ذاكرة هذا التاريخ بعد أن ظلت عرضة لتبخيس قاتل انشغل بالمركز وبتميز المركز وبسبق المركز. لقد استطاع رضوان احدادو اكتساب السبق في حفظ ذاكرة المسرح بشمال المغرب، من خلال نشر المئات من المقالات والوثائق والمظان والنصوص ذات الصلة، وخاصة على صفحات جريدة «الشمال»، وكذلك من خلال إصدارات قطاعية مستقلة، نذكر منها كتاب «مسرح عبد الخالق الطريس» (1988)، وكتاب «الحركة المسرحية بمدينة طنجة» (1992)، وكتاب «كتابات على جدران مدينة منسية» (2001)، وكتاب «ثريا حسن- رائدة مسرحية من شموخ» (2005)، وكتاب «محمد الدحروش- مسيرة مسرحية متوهجة» (2008)، وكتاب «محمد النشناش- الظل الآخر» (2009)، وكتاب «فرجات مسرح البساط في شمال المغرب» (2021)، وكتاب «أحمد المروش- أيام من حياتي» (2021).
في سياق تدفق عطاء هذا النهر الدافق، يندرج صدور العمل الجديد لمبدعنا الكبير خلال سنة 2021، في شكل عمل تجريبي في باب «المرتجلة»، هدفه مساءلة قضايا المسرح وانكساراته وإحباطاته، ثم انتظاراته وإشراقاته وأحلامه. اختار المؤلف لعمله عنوانا مثيرا قد يختزل حجم الحرقة التي تهيمن على ذات المبدع، إلى جانب حجم الأمل الذي يغمر ذاته على الرغم من كل شيء. صدر هذا العمل تحت عنوان «مات المسرح.. عاش المسرح»، مع عنوان فرعي وتفصيلي: «احتفالية الموت.. احتفالية الحياة في وصلتين»، وذلك في ما مجموعه 67 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذه الاحتفالية الجديدة تشكل أسمى عبارات النبوغ والريادة التي اكتسبها رضوان احدادو في مساره الإبداعي الغزير والمتنوع، اشتغالا منه على التأصيل لشروط أنسنة الممارسة المسرحية ببلادنا، من خلال التحامه بالقضايا الكبرى للوطن، وانفتاحه المتواصل على درس التاريخ لاستلهامه في كل نصوصه في سعيه لتحويل الذاكرة إلى رافعة لكل مشاريع النهوض. لقد أعاد رضوان احدادو تركيب وقائع الماضي وتفاصيل الحاضر في قالب تجديدي ينشغل بأسئلة الذات والواقع، وينشد الاحتفاء بالبعد الجمالي والفني المهيكل لهذه الأسئلة. لذلك، لم يكن خطابه تقريريا مباشرا، ولا تعبويا مرتبطا بضغط اللحظة، ولا حماسيا منتشيا بفتوحاته، بقدر ما أنه ظل حريصا على الارتقاء بلغته السلسة وباستعاراته العميقة وبحمولاته الجمالية، وقبل ذلك، بمختلف أوجه صدقه ونزاهته في تشريح قتامة الحال والمآل. ولعل هذا ما أدركه الأستاذ ندير عبد اللطيف، عندما قال في كلمته التقديمية لمسرحية «مات المسرح.. عاش المسرح»: «تعالج هذه المسرحية أزمة المسرح في شقين مختلفين، وفي سياق زمنين متناقضين، الأول تتسلط فيه الرقابة والمنع وتضايق حريته في التعبير، والثاني يتقنن نشر الرداءة وتصريف السخافة، وتشجيع أبشع صور الانحطاط على حساب أي فن راق وملتزم بقضايا الإنسان، ليبقى الفنان المسرحي في آخر المطاف يصارع ذاته وواقعه ومحيطه، يواجه هذه الأزمنة المرتدة والمتردية وحيدا بكثير من المعاناة وقليل من الدعم والحق في الاعتراف من طرف الدولة والمجتمع بمؤسساته وأفراده…» (ص ص. 7-8).
تختزل هذه الشهادة مقومات لغة رضوان احدادو التي لا تشبه مثيلاتها، لا في الشكل ولا في اللون ولا في السياق. هي لغة مسكونة بعشق صوفي لعوالم الركح ولفضاءاته العجيبة. هي لغة تمتح عناصرها الاستدلالية من عبق التاريخ، بعد أن يقوم المؤلف باستدعاء أسماء على أسماء، ونقلها في رحلات استيهامية تنتقل بها بين الأزمنة السحيقة، قبل أن تكتسب صفات العصر وتصبح شاهدة عليه، بل وضميره المتيقظ ضد كل أشكال السقوط والردة والضحالة. في هذا الإطار، تنتقل شخصيات مثل عنترة بن شداد والمتنبي وطارق بن زياد وكسرى ونابليون وقارون…، من عصرها ومن زمانها، لتحل داخل متن رضوان احدادو كضمير جمعي منكسر من إحباطات الراهن ومن سقوطه المدوي.
لقد استطاع رضوان احدادو استغلال تكوينه الثقافي الموسوعي، من أجل الغوص بعيدا في مد الجسور بين اهتمامات ثقافية شتى، وفي التأصيل لشروط تفجير المتن المسرحي وإضفاء عليه بعدا إنسانيا واسعا يتجاوز السياق الضيق والمجال الجغرافي المحدود والإفرازات الآنية لحالة الانكسار المهيمن. لكل ذلك، أضحت لغة رضوان احدادو خطابا لمحاسبة الضمير الجمعي الغافل عن تداعيات المرحلة، بعيدا عن اللغة السوداوية التقريرية، وقريبا من لغة النقد الصارم الذي لا يتمايل مع الأهواء من جهة، ولا يبالغ في أحلامه وفي يوطوبياته من جهة ثانية.
ففي سياق رصده لمآلات الانكسار، يقول المؤلف على لسان أحد أبطال نصه: «هل لازلتَ هناك أيها المتشبث بالسراب؟.. ابحث بنفسك لنفسك عن نفسك، عساك أن تجد يوما بنفسك نفسك في نفسك، ابحث عن وجه حقيقي، غير مزيف كان لك يوما.. وجهك أنت، وجهك الآخر، عمل آخر، مكان آخر، اصنع زمنك.. زمنا آخر.. المسرح الحق الآن مدجن، هكذا أرادوه.. المسرح الآن يحتضر…» (ص. 19). ويضيف المبدع احدادو راصدا مآلات حالة التردي قائلا: «أنا أعرف حيث يجب أن أكون، عشت عمرا طويلا راكضا، لاهتا فوق الخشبات، متمرغا في ترابها، صهدها وزمهريرها، مطوقا بنظرات الآخرين، ملاحقا بملاحظاتهم وانتقاداتهم، هكذا هم الناس.. هكذا يقضون حياتهم، يتفرجون وينتقدون، فقط يتفرجون وينتقدون، لكم تمنيت أن أكون يوما واحدا غير أنا الذي في عيونهم، يوم واحد أقبض فيه على هويتي الحقيقية… عزيزة هي اللحظة التي أكون فيها أنا هو أنا، أنا بلا أصباغ ولا مساحيق، أنا بلا ألقاب ولا نياشين، بلا مواقع كاذبة ومراتب خادعة، هل تدركون حجم المرارة أيها الطيبون.. حجم القساوة عند ضياع أنا في أنا.. عندما تكتشف في نهاية الطريق أنك تنام وتستيقظ على أحلام ضبابية، أحلام بلا لون، وأنك تعيش على أوهام هاربة وكاذبة، وأن لك وجها هو كل الوجوه وأنك لا تملك وجها واحدا حقيقيا…» (ص ص. 21-22).
وبلغته الشفيفة المفعمة بالأمل وبعناصر الضوء المشع، يعيد رضوان احدادو رسم بوارق الغد المنتظر، حيث التصالح مع الذات ومع الذاكرة ومع الانتماء. يقول المؤلف: «الحكاية قد تكون حكاية يكون لها عنوان اسمه المسرح، والمسرح فضاء اسمه الوطن، والوطن له منا القلب، الوطن صغير في حجم الكف، كبير في حجم الدنيا، مسرح صغير يسعنا جميعا، يسع أحلامنا الجميلة. أو قل هي حكاية شجرة اسمها الوطن، أو وطن اسمه المسرح، أو اسمه الشجرة.. شمس ونجوم وقمر، ماء وهواء ونار، جفاف، وغيث وإعصار.. هو النحن والآخرون، السائرون والقاعدون، القادمون والمسافرون، المقيمون والراحلون.. هي حكاية وطن..» (ص. 32).
وقبل أن تكون حكاية وطن، هي حكاية رضوان احدادو المسكون بحب هذا الوطن، والمتيم بعشق المسرح. إنه رضوان احدادو الذي يصنع بهاءنا الثقافي في مواجهة إعصار التردي. إنه رضوان احدادو المنتمي لجوقة زارعي بذور الحب داخل تربة قيم الجمال وأحلام الإبداع ومباهج السمو والرقي في مشهدنا الثقافي الراهن.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 16/08/2021

أخبار مرتبطة

  لحظة إنسانية رفيعة تلك التي وقع عليها المعرض الدولي للكتاب يوم السبت 18 ماي الجاري بتكريمه لقامة فكرية وأدبية

السفر إلى المكان والعودة من الزمن   كيف استعاد عبد الحميد جماهري الذاكرة التاريخية للمغاربة من بوابة الشرق، وتحديدا من

يعنيك في أيّ مدينةٍ تزورُها، سائحاً أو ضيفاً، ما إذا كنتَ تستشعرُ فيها الأُلفة، أو الوداعة إنْ شئت. وإذا طُفتَ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *