قراءة في رواية «شريد المنازل «للروائي اللبناني جبور الدويهي

 

حين تصيّر الحرب الحياة إلى عبث

من أبشع مايقترفه العقل البشري هو الحرب.الحرب حين تدمر العمران تدمر أكثر، الإنسان الذي أسس ذلك العمران وأنشأه.الحرب لا تقتصر على هدم المنشآت والمباني فحسب، بل تهدم في نفس الوقت الإنسان وتحطمه. فيصير بالتالي يفتقد معنى أن يكون إنسانا في الحياة.إلا أن أكبر  بشاعة في الحرب، حين تكون تدور على محو الآخر وقتله فقط لأنه يختلف مع قاتله في الدين أو في اللغة أوفي الطائفة..هنا تأخذ  الحرب شكلها المأساوي والدرامي الأسود،  فيحاول الإنسان الذي يخضع لمثل هذه الحرب أن يبتكر  لنفسه وسائل دفاعية جديدة تكون من رحم الوضع العبثي والمأساوي نفسه ليرد بها شراسة القتلة ويحمي نفسه من العبث الذي يخوض  فيه المتناحرون، كأن يحمل في نفس الآن بطاقة تعريف لاتشير إلى هوية محددة وثابتة، وفي عنقه صليبا معلقا وفي جيبه مصحفا صغيرا لتكون أدوات ترد الشر في اللحظة المناسبة. فحين يقتضي الأمر إظهار علامة تشير إلى الانتماء إلى من هم يقفون في الحواجز المتفرقة في أحياء بيروت وفي الطرقات التي خارجها لتكون ذات مفعول الخلاص من الموت والقصاص، يتم إشهارها في وجه الواقفين على الطرقات وعلى الحواجز وهم يفرضون سلطتهم وسطوتهم ويشرعون قوانينهم العرقية والمتطرفة إلى حد بعيد  ..
«نظام» الشخصية المحورية في الرواية، هو المثال الناصع على عبثية تلك الحرب الأهلية الطاحنة التي رزح  تحتها لبنان لسنوات عدة ولاتزال آثارها بارزة لحدود اليوم. فالرواية تتناول سيرة رجل يغرق في الالتباس وانطفاء اللمعة كلما مد إليها يده. فالإخفاقات في الحياة عنده تبدأ من «يسرى مكتبي» الطالبة اليسارية المناضلة والرافضة للواقع كما هو، إلى «جنان سالم» الرسامة التي تغرق في رمادية الوضع المحيط بها فتنقل نفس اللون مضافا إليه الأحمر إلى قماش لوحاتها دلالة على القتامة وعلى الدم المسفوح في الشوارع وفي الحارات، وتنتهي نهاية مأساوية حين لم تستطع تحمل ما يجري حولها من حرب تدميرية،  وقبلهما سيرته الحياتية بين طرابلس في أسرته البيولوجية»محمود العلمي» وفي أسرته الثانية بالتبني «توما شاهين».
تبرز أحداث الرواية عبث الحياة والأقدار لأننا لانتحكم في صنع مصيرنا وفي رسم الخط الذي علينا أن  نمشيه ،  وكأن هناك أياد خارجة عن رؤيتنا وعن فهمنا وعن إدراكنا وعن استطاعتنا،هي من تحدد في أحيان كثيرة الطريق التي علينا سلكها وقطعها وتقبل المصير الذي سينتج عن السير في هذه الطريق تحديدا، وهي التي لم تكن في يوم من الأيام واردة في أذهاننا’بل ولم تكن  واردة حتى في خيالنا.
رواية «شريد المنازل» بهذا المعنى تقدم رؤية عن عبثية الحياة أحيانا ، وعن قصور فهم الإنسان للإنسان نفسه، ومن ثمة فهمه للحياة.فلو كنا نعلم أن وراء كل واحد منا حكايته الخاصة وظروفه الخاصة التي جعلته على الهيأة وعلى الحال الذي يقف به أمامنا، لكنا نراجع أنفسنا في  إصدار أحكام واتخاذ قرارات تبدو رعناء ومتسرعة، ليس فيها أدنى قدر من فهم ظروف الآخرين وتقدير الأقدار التي صنعتهم وجعلتهم  على ما هم عليه الآن.
«نظام» صورة جلية عن الإنسان الذي يجد نفسه يلبس أسماء لايختارها لنفسه، ويلبس ديانات متعددة بدون إرادته، يجد نفسه موزعا بين أسرتين بسيرتين مختلفتين عن بعضهما البعض,رغم أنه يجمعهما وطن واحد يمشون تحت سمائه وفوق ترابه، لكن الإنسان اجتهد كثيرا في خلق كليشيهات التمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان، بالهوية وبالدين وباللغة، وجعلها هي الأصل وهي المبتدأ، وهي الركن الأساس.فألغى أنسنة الإنسان التي هي العنصر الأصل والمشترك بين خلق الله جميعا وإن اختلفوا في أشياء كثيرة تتحكم فيها ظروف خارجة عن إرادتهم.فالإنسان هو الأص..هو الجذرأما لغته ودينه فهي فقط فروع تنبت من هذا الجذر الأساس.ف  «نظام» لم يختر دينه حين ولد في أسرة مسلمة سنية، فيجد نفسه وهو طفل صغيرلايعرف ذرة عن العالم الذي يحيط به وفي ظروف خاصة بأسرته الأصلية، محضونا من طرف أسرة ثانية مسيحية كانت في البداية تستضيفه للعب في حديقة البيت الذي تمتلكه في جوار أسرته المسلمة التي تنتقل إلى بلدة»حورا» الجبلية للإصطياف هربا من حر وشمس مدينة طرابلس، فتكتري البيت من عند أسرة «توما شاهين».ستتشعب أحداث الروايةليجد الطفل «نظام» نفسه يكبر في أسرة توما شاهين المسيحية التي تفتقد إلى الأطفال بسبب عقم زوجة توما. تمر السنون ويكبر نظام بديانتين وباسمين والذي حينما يبدأ يعي الأمور لم يعد ينتبه لأصله ولا لدينه، فيعيش في الإلتباس ويرضى بكل عبث الدنيا الذي ينزل فوق كتفيه ويتحمله.
نظام هو مثال للإنسان الموزع الذي يجعل له الآخرون مقاييس وتحديدات يضبطونه بها، ويفرضون عليه أن يستجيب لما يضعونه هم شروطا لتلك التحديدات وتلك المقاييس.فنظام مسيحي حين يكون في بيته الأول في طرابلس مع إخوته الأشقاء وأبويه البيولوجيين ومع عمتيه، وهو مسلم لما يكون في حورا عند والديه الآخرين اللذين ربياه واعتنيا به منذ صغره، ولأن الحرب هنا تقوم عبثا على الهوية وعلى الدين وعلى الطائفة، فقد كان مقدرا على جثة نظام الذي قتل على الهوية من نفس من يحملون هويته وديانته، خطأ حين نسي إشهار علامة الإنتماء أو تغاضى عن ذلك إمعانا  في عدم منح المعنى والفهم لمايجري،    أن تتوزع هي أيضا فتكون مشبوهة ومرفوضة «لمسيحيتها» من الصلاة في المسجد ومن الدفن في مقبرة المسلمين، ومشبوهة ومرفوضة من الدفن في مقبرة المسيحيين لذا لم يتم التأكيد الصريح على أين استقرت جثة نظام في الأخير، ولو أن الرواية في آخرها  تشير بما يشبه اليقين أنها في البستان»بين شجرة التوت الشامي وجم الورد الجوري تتزاحم فيها اليراعات المضيئة التائهة بكثرة كأنها تضرب موعدا في ليالي الصيف الحارة» ص345 ، وهي إشارة إلى العودة إلى مكان وزمن الطفولة البريء،حيث كان اللقاء الأول بالطفل وحيث نمت المحبة به والعطف عليه إلى أن صار شابا، كما أنها ربما إشارة إلى مكان وزمن تلاقي الأسرتين وتجاورهما وتساكنهما  الذي أفضى إلى التعارف وإلى التزاور  ثم أخيرا إلى «اقتسام» جثة نظام الذي قتلته الحرب الأهلية العابثة والعبثية……
«جف الماء عن بنطلون نظام وبقي الدم.فتحت الطريق وانطلقت الحافلة مجددا،سيدخل بيروت والدماء لركبتيه كما يقال» ص84 ..دخل نظام بيروت ببقع من دم بقيت عالقة بسرواله حين أقدم على حمل جثة شرطي يخرجه من بركة ماء وهو في طريقه مسافرا  إلى بيروت قصد متابعة دراساته العليا،لكن أحداث الحرب الأهلية التي تناولتها الرواية ببراعة شديدة،وكذا بنقد عميق من خلال السخرية السوداء والمواقف التي تثير الضحك المبكي,، أو البكاء الضاحك للإشارة إلى عبث  ماتصنعه بعض العقول وبعض تصرفات البشرحين تكسر حلم  شاب جاء لغرض الدراسة ليعود جثة موزعة على المناطق وعلى الديانات وعلى الطوائف دون أن يكون شيء مما حدث له، بمحض إرادته أو باختياره الشخصي وعن قناعة..عاد جثة هامدة وهو لايعرف ماذا حصل بالضبط، ولماذا حصل!!!,كأن العبث هو من يتحكم في الأشياء وفي المصائر لأن العقل صار غائبا أو بالأحرى مغيبا….
+  تنويه: الرواية كانت ضمن اللائحة القصيرة للجائزة العربية للرواية(البوكر) لسنة  2012…


الكاتب : إدريس أنفراص

  

بتاريخ : 24/12/2020