قصة قصيرة: الرجل الذي يخشى فقد ظله

الأسرة والطبيب وأغلب الأصدقاء نصحوك بتخفيف الوزن. مع التقدم في السن أصبحت الخيارات محدودة. لا بد من الرياضة والحمية، أو على الأقل الالتزام بإحداهما. تخلصت من ثلاثة سموم بيضاء: الملح والسكر والحليب. بقي سم رابع لا بد أن تجد له حلا: الخبز.
الخبز له قدسية خاصة تسكن لا وعيك، فأنت مواطن قادم من الأسفل. كل شيء في البلد يدور حول الخبز. قلة الخبز وندرته أسقطت دولا وممالك.
عندما تذهب إلى العمل، فأنت تذهب لتكسب طرفا من الخبز. وعندما تُظهر عكس ما يتوقعه الناس منك، وتبدو مشاغبا، يقولون بأنك ب(خبيزتك). وإذا كنت غبيا أو ساذجا يصفونك بخبز الله في طبقه. وإذا أضربت واحتجيت على ارتفاع الأسعار، أو طالبت بالضريبة على الثروة، أو بالمزيد من الديمقراطية والمساواة، يقولون بأنك شبعت من الخبز. وإذا شكّوا في أمرك، فأنت في بطنك العجينة. حياتك بكاملها تدور على الخبز.
الخبز يذكرك دائما برائحته، وأنت تعود بالوصلة من الفرن، ويذكرك أيضا بالمرق، وبحكايات غريبة، إما سمعتها أو عايشتها.
حكى لك صديق في الدراسة عن جار فقير، له ابن في سن العاشرة، يأخذه معه إلى أي عرس تمت دعوته إليه. وعندما يوضع طبق المرق باللحم، ينظر إليه ويقول: غمّس أولدي أعمر! إلى هنا يدو الأمر عاديا. لكن غير العادي هو أن عمر لا يتناول المرق إلا إذا دُعي والده إلى عرس أو وليمة. وبين هذا وتلك أسابيع، وشهور طويلة، وربما سنوات عجاف.
حضرت مرة وليمة في الحي. جلست مع شباب في سنك. تغامزت المجموعة على (كبيش)* الحومة. بمجرد ما وُضع الصحن فوق المائدة، كل واحد طار بقطعة لحم، ولم يبق غير المرق. (الكبيش) رمى يده متأخرا، فضربت في المرق حتى تطاير رذاذه.
لا تنسى الفقيه الذي خرج من الزردة محمولا فوق عربة يدوية، وعندما رأى حشدا من الناس مجتمعا أمام باب منزل، سأل عما يحدث، فقيل له بأن فقيها حضر وليمة وأكل حتى انفجرت بطنه، فقال هذه هي الوليمة وإلا فلا!
كلما قلّ المرق في البيوت، يأكل الناس بشراهة في الأعراس والولائم.
الناس تكبر وتسمن مع وبالخبز والمرق. الخبز موجود في أغلب البيوت، لكن المرق لم يكن كذلك.
يأتيك صوت امرأة تشحت من ماض سحيق:
ـ خبيزة على الله.
الناس اليوم لا تشحت من أجل خبيزة. الناس تشحت من أجل شراء منزل أو قصر أو سيارة فارهة أو تسجيل أبنائها في مدارس البعثات. كل الناس تحولوا إلى شحاتين. لم يَقنعوا بمدّ أيديهم لجيوب بعضهم، بل طمعوا حتى في الكذب على السماء.
وأنت ألست شحاتا مثلهم؟!
الآن ستدخل في صيام متقطع. إذا تناولت الفطور في العاشرة، ستؤخر طعام الغداء إلى السابعة مساء، وتستغنى عن وجبة العشاء، وعن كمية كبيرة من الخبز. لا بد من القطع مع الخبز والمرق. لم يعد ممكنا أن تجتمع الأسرة ثلاث مرات في اليوم، وتضع الوجبة الرئيسية في صحن واحد مع الخبز على المائدة. زوجتك مثل باقي النساء تكره أن يتأخر، أو يتغيب أحدهم عن المائدة، فتضطر لتعزل له حقه. اليوم أصبح الأمر مختلفا. لا أحد يجلس في الوقت المحدد إلى المائدة. بل أصبحت المائدة مهجورة في أغلب الأوقات.
عليك أن تضع نظاما غذائيا شبيها بالنظام الذي يضعه الناس في الدول الديمقراطية. ستجد صعوبة في ذلك. أنت الآن مثل طفل في مرحلة الفطام. هذا النظام يبدو مكلفا. إذن لا بد أن تشحت لتتغير.
اذهب إلى مكتبك، وافتح المذكرة على الهاتف، ودون هذه الفكرة حتى تعود إليها في الليل، وتجد حلا من غير أن تشحت أو تسرق. بعض الأفكار تأتي وتطير، إذا لم تقبض عليها بالقلم والورقة. رأس الإنسان بعد كل هذا العمر، أصبح يشبه قُرصا صلبا لحاسوب قديم، امتلأ عن آخره.
فتح الكاتب الهاتف، وكاد يموت من الضحك. سأله الراوي عن السبب، فأجاب:
ـ سمعتني في المقهى أتحدث في الهاتف؟
رد الراوي باستغراب:
ـ نعم. ولكنك لم تضحك، لذلك لم أسألك مع من كنت تتحدث وحول ماذا ؟
ضحك الكاتب مرة أخرى حتى دمعت عيناه، وقال:
سأروي لك حدثين يرتبطان بالأكل، لكن ليس بالخبز والمرق. كنا نتحدث أنا وصديق عن امرأة متميزة تكتب الشعر، وتصنع الحلوى. وأحيانا تضحي بالحلوى من أجل الشعر. إلى هنا يبدو الأمر عاديا. لكن غير العادي هو أنه تذكر حادثا مضى عليه أكثر من أربعين سنة عندما كان طالبا يدرس بالجامعة. زاره طالب آخر ولد الحومة، ووضع عنده سطلا من الحلوى أمانة. بدأ يمدّ يده كل يوم إلى السطل، ويأكل من الحلوى حتى أتى عليها بالكامل. بعد أيام جاء الطالب ليأخذ أمانته، فوجد السطل فارغا. وعندما عاد إلى أصدقائه الذين يتقاسم معهم المسكن، وأغلبهم من أبناء مدينة مراكش قال لهم وهو يندب:
ـ سلاّم أكل لي الحلوى؟!
فبدأوا يضحكون، حتى احمر وجهه خجلا، وطلب منهم أن ينسوا الأمر. لكنهم كلما التقوا بشخص يعرف صديقهم، أخبروه بأن سلّام أكل له الحلوى.
ضحك الراوي حتى كاد يموت من الضحك.
وأضاف الكاتب:
ـ أرجو ألا يذهب عقلك بعيدا. نحن نتحدث فقط عن الحلوى التي كانت في السطل، لذلك لم أضحك في المقهى.
والأمر الثاني وقع عندما اتصلت بصديق لأعزيه في وفاة أخيه، فجرّنا الكلام إلى الحديث عن الحرارة، وغلاء الأسعار، فروى لي حكاية غريبة، وقعت له مع موظف صغير مثله عندما تحدثا عن الغلاء، وكثرة النفقات في الصيف، فقال:
ـ الناس تصرف على أسرها وهي مستيقظة، أما أنا فأصرف على أسرتي في النوم واليقظة!
سأله:
ـ كيف تصرف، وأنت نائم ؟!
أجاب وهو يضحك ساخرا:
ـ زوجتي تطلب من أحد أبنائي أن يذهب إلى الغرفة، ويضع يده في جيب سروالي لأخذ ثمن الحليب والسكر والشاي وغيره من لوازم البيت.
ثم سأل الراوي الكاتب:
ـ لكن لم تقل لي ما علاقة كل هذا بالعنوان أعلاه؟
وضع الكاتب يده على رأسه، ثم نهض من مكانه، وسار بضع خطوات تحت ضوء الشمس حتى تأكد بأن ظله لا يزال يلازمه، فأجاب وعينياه تلمعان ببريق غريب:
ـ كان الناس في القديم يعتقدون بأن الإنسان الذي يستغني عن الخبز والمرق، يخاف من الموت، وهو مقبل عليه لا محالة. وأضافوا بأنه يفقد ظله ثلاثة أو أربعة أيام قبل يأتي عزرائيل، ويأخذ روحه!

المعجم :
ـ (الكبيش): وصف يطلق على شخص يميل إلى التهريج، ويمتلك سبع صنائع والخبز ضائع. كل حي من أحياء المدينة القديمة بمراكش تجد بها شخصية تلعب هذا الدور وتحمل هذا الوصف كاسم ثان يحل محل اسمها الحقيقي.

مراكش 15 غشت 2023


الكاتب : حاميد اليوسفي

  

بتاريخ : 25/08/2023