قصة قصيرة : فات الميعاد

*إلى روح صديقي أحمد الدوك الذي ذهب ضحية جائحة كورونا فبراير 2021
*(..) الناس قبور والأرض أرضة والتاريخ شواهد .
*أحمد بوزفور

استعجلت الوصول في الموعد، فمن عادة صديقي أحمد أن يحضر في الوقت المضبوط كساعة سويسرية.
كان الطاكسي يتوقف كثيرا عند الزحمة وإشارات المرور، حاولت وسعي أن أكون عند الموعد بالمقهى المعتاد، وكل تأخير سينجم عنه عتاب وتقريع من صديقي الذي يتطير من عدم احترام المواعيد، سأجده دافنا رأسه بين صفحات الجريدة وهو يمسكها بشكل متعامد، وبين الفينة والفنية يطل من وراء عوينات نظارته التي تشبه إلى حد كبير نظارات التشكوف.
حادث عارض جعل سائق السيارة يتوقف ويدخل في مشاحنة مع شاب نزق يمتطي دراجة نارية، تلاججا، تلاسنا، تدخل أولاد الحلال تصالحنا، تنفست الصعداء، واصل السائق السير وهو يسب ويشتم كل من يخالف السير وراءه وأمامه وخلفه ويلعن التسيب في تسليم رخص السياقة لكل من هب ودب.
نزلت من السيارة متوقعا تقريعا من صديقي الذي سأجده في منتهى الغليان وقد كاد التأخر أن يمتد لساعة، منذ مدة ليست باليسيرة لم نلتق، وإغلاق المقاهي وساعات حظر التجول من جراء تفشي جائحة مرض كورونا جعل الكل يدخل قوقعة بيته سواد الليل وبياض النهار.
اتصلت به عدة مرات بالهاتف، وكتبت له رسالة ألح فيها على اشتياقي إليه وضرورة لقاء وبيننا الكثير مما يقال، فالوباء قد خف ولابد أن نواجه بدفء اللقاء مع أخذ كل الالتزامات الاحتياطية باعتماد بروتوكول المرض من مسافة تباعد وكمامة ومعقم، قد مللنا كبسة البيت وسجن الجدران الأربعة وعلينا أن ننطلق للحياة ..
اقترحت عليه لقاء بمقهى على ضفة نهر سبو حيث تلوح رقرقة الماء والصفاء وخضرة تسر النظر، لقد أصابتنا الجدران الكالحة بالكآبة .
من يوم جثمت كورونا على إيقاع حياتنا اليومية وأنا أتواصل مع صديقي بالهاتف النقال، وقد يشدنا الحديث لساعات متأخرة من الليل ونحن نخوض في الخاص والعام.
اقتربت السيارة من المكان الذي حددت للقاء، أحكمت وضع الكمامة وأخرجت المطهر ووضعته في يدي لأن صديقي يلح على تعقيم الطاولة والمقعد وحتى الملعقة التي يحرك بها قطعة سكره، غسلت المقهى طولا وعرضا لم أجده، حسبت بأنه قد أخذ قراره ولما طال غيابي انسحب، ثم قلت ربما ظهر لقضاء غرض ويعود، المقهى شبه فارغ إلا من شاب وشابة يتحاوران بهمس كعصفورين على فنن ، سألت النادل عنه، وأنا أصفه رجل نحيف بشارب خفيف، وكتاب وجريدة يرتدي نظارات طبية، نفى أن يكون قد ظهر هذا الرجل بهذه المواصفات بالمقهى .
خمنت بأن هناك عارضا حال بينه والمجيء ومن عادته أن يعتذر، فهو واضح وشفاف في تواصله وتعامله، وجددت الاتصال به هاتفيا وسجلت له رسالة صوتية مشيرا ـ مجددا ـ للمكان وأنا أنتظر» .. أنتظرك بمقهى ريفيرا على حافة سبو « .
تهيأت لكي أكيل لصاحبي انتقادات ومؤاخذات منتقما من كل ما صدر منه سلفا عن كل دقيقة تأخير، وسرحت متأملا ماء النهر الرمادي المنساب برقة وتدفق، و نوارس تتسطر على قارب عتيق رابض كأنه تلقى قصيدة رثاء، الفتى والفتاة يحتسيان عصيرا وقبلا مسروقة، المساء كابي وأغنية من مذياع المقهى تصدح :
« فات الميعاد وبقينا بعاد
والنار بقت دخان ورماد «
دوما يردد صديقي هذه الأغنية، وكلما تأخرت يدني فمه إلى أذني ويعلي من نبرة صوته الأجش:
«فات الميعاد «
ويشيح عني ولايقبل أي اعتذار، اليوم سوف أبادره بالعتاب وأترنم مقربا فمي لأذنه :
«فات الميعاد «
سيتفجر بكركرات ضحكة عالية يتلوها شهيق يكاد يقطع أنفاسه، فيخرج من جيبه رشاشا ويقذف هواء مسعفا عبر فمه حتى يسترجع أنفاسه المتقطعة، متلافيا أزمة ربو.
يمسكني من يدي في كثير من المرات ويقف وقفة المعتد بنفسه بشموخ حذو الممثل» أنتوني كوني» في شريط « زوربا اليوناني « ويقحمني لكي أشاركه طقوس رقصة يرقص بمرح وجنون ثم يضحك ويسترخي على الأرض ناظرا إلى السماء مليا ثم يقول بسرور غامر :
ما أحلى الحياة
ياليتني طائرا محلقا في سماء !
صاحبي يعيش عزلته القاسية، يهزمه الوساوس القهري وفرط النظافة وتوهم الإصابة بالأمراض، وقد زادت جائحة كورونا من مضاعفة حساسيته تجاه الخوف من فوبيا المرض.
يجد كامل سلوته في الكتب فلقد كان فأر كتب بحق، يغوص في قراءتها مدخنا ومحتسيا قهوته السادة على مهل وتروّ.
يفرد أوراق جريدته ويغوص في القراءة، مناقشا القضايا العامة من حبائل السياسة إلى مراوغات اللاعب «ميسي»، يخرج من جيبه قلما ويطوي الجريدة إلى مربعين ويشرع في فك ألغاز الكلمات المقاطعة، وبين الفينة والفنية يسألني عن معنى تلك الكلمة أو تلك فيشعر بقرفي وعزوفي عن هذه الكلمات التي تشده شدا ولايستكين حتى يعبئ جميع الخانات ويشعر بانتصاره فيفرك يديه بانتشاء.
يسرح قائلا :
ـ مالي أراني أرى وجوه من ماتوا من أقارب وأصدقاء في أحلام تتكرر، وجوه تظهر وتختفي .. أرى أمي .. أبي .. جار لنا قديم ..جبران خليل جبران ..فولتير.. رامبو ..نجيب محفوظ .. تلميذ كان يدرس عندي داسته سيارة مستعجلة ذات صباح ممطر، أستيقظ بعدها مبهوظا متقطع الأنفاس ثم أعود لكي أصطاد رقدة والأرق الشديد يترصدني .
بعد ظهور جائحة كورونا تضاعفت وساوسه، وانقطع عن المقاهي كلية وكان في الساعات الأخيرة من الليل يحدثني عن الأرق الذي يستبد به ويحرمه من لذة النوم ، فيتقلب الفراش كما لو أنه يتقلب على الجمر ودعة النوم تناصبه العداء، يتحاشى النظر إلى شاشة التلفاز وقد مج أخبار المرض والموت التي تعددت وتكاثرت في المدة الأخيرة، حتى عمته التي توفيت سافر ليحضر جنازتها بصعوبة وقد أنهكت أنفاسه الكمامة واستعمال المطهر الذي سبب له حساسية في يديه وفي عينه، حضر الجنازة مع عدد قليل من أفراد عائلته وهم يتبادلون التعزية والسلام عبر قبضة اليد أو ملامسة الأذرع، وهو دائما لا يتخلى عن قفازاته وكمامته والمعقم الذي لا يفارقه في حركاته وسكانته. قدم تعازيه وعاد في نفس اليوم إلى بيته ناشدا السلامة، متأسفا على واقع الحال وقد حرمنا من أحضان الأعزاء حتى لحظة تقديم العزاء .
« فات الميعاد وبقينا بعاد «
والنار بقت دخان ورماد»
نظرت إلى الساعة وقد تدفق الوقت وصديقي لم يظهر بعد، هاتفته عدة مرات لكن هاتفه مصمت لا يجيب.
ربما يكون في معايدة طبيبة وهو دوما يشتكي لي من حريق جهنمي تسببه له البواسير، وبدل أن يصبح ويبكي ويشتكي يطلق موسيقى رقصة زوربا ويرقص ويرقص ويرقص كطائر مذبوح تهزه تباريح الشطحة الآخيرة، ويصبح الجلوس عنده قطعة عذاب وكلما مررنا بشاطىء المهدية يرمي سترته ويدعوني لرقصته المحبوبة، يسند ذراعي لذراعه ويحرك رجليه بإيقاع الموسيقي بهدوء وسكينة لكي يحمى وطيس الحركات مع تسريع إيقاع الموسيقى ثم يعانقني ويضحك حتى تدمع عينيه ونواصل السير على الشط ونشيش الماء يتصاعد إلينا.
خلقت بيننا الصداقة لسنوات ذوات العدد قواسم مشتركة، ولما تقاعدنا كان عكازة طريقي وكان عكازتي، لست أدري كيف كانت تشدنا أحاديث نوستالجية عن الطفولة وشقاوتها، وكيف كان يدحرج ريشة الكتابة لينحني تحت الطاولة ليتطلع لسيقان معلمة اللغة الفرنسية الشقراء ، فتبدو أفخاذها اللحيمة في حجم بقرة يعرضها جزار الحي في واجهة محله بعد السلخ وقد وضع في مخرجها قبضة بقدونس، وبقدر ماكان يحب اللغة الفرنسية وأستاذتها الوديــعـــة اللطــيــفة ، كان يستهجن ساعة درس أستاذ اللغة العربية والذي يعصره عصرا وهو يخطىء في ضبط شكل كلمة على السبورة، أو يقف عليه متعثرا في استظهار سورة الرحمان أو الواقعة وقد يتحول غضب الأستاذ المتجهم دوما إلى ضربات لاسعة بقضيب حديدي يترك أثرا لاهبا على يديه ومؤخرته.
ثم يأخذ نفسا طويلا من سيجارته :
_ برغم أنهم كان يغلظون في معاملتنا بيد أنهم أساتذة اشتغلوا بروح وطنية وهمة عالية.
ذكر لي يوم تسلم قرار تقاعده، جلس في آخر الفصل الدراسي متأملا السبورة السوداء ، ووجوه تتراءى أمامه كأنها شاشة عرض ، يستعرض وجوه تلاميذه وقد شقوا طرقا في الحياة ومنهم الطبيب والمهندس والمدرس وسائق سيارة أجرة وحتى الوزير والخفير، وكم تهزه نشوة الفرح وهو يصادفهم في مناسبات مختلفة .
بكى جذلا وطبيبة شابة تسعى إليه وسط حشد وهي تحتضنه شغفا صائحة :
ـ أنا سعيدة أن تشرف عيادتي يا أستاذي ..
كان يحكي ثم ينتابه بين الحين والحين صمت مريب .
وذات عشية هاتفني وقال لي أن أمر ببيته ، وضع «كرطونات « في صندوق سيارة وخرجنا إلى ظاهر المدينة .
وصلنا إلى خلاء وكب أوراق على الأرض فنشأ يطيرها ويضحك بهستيرية قائلا:
ـ عرقنا ورق .. دمعنا ورق.. تعبنا ورق .. ولادتك ورق .. كدحنا ورق ..موتك ورق . ورق .. ورق .. ..
تعبت من الجري عن الورق آن لي أن أتخلص وأتطهر من بلوى الورق ..
بقداحته أوقد قبس نار، فسرى لسان النيران ملتهما أرتال الورق المتراكمة، والدخان المتطاير ينفتل سحبا تبددها الريح.
بعدها شغل من هاتفه موسيقى زوربا الراقصة التي يعشقها ويحب أن يرقصها كلما غمرته فرحة أو استبد به حزن ، أمسكني من ذراعي وبدأ بخطوات إيقاع موزونة يرقص بهدوء وما فتئ أن تصاعدت حدة الرقصة وهي تسرع إيقاعها ومع إيقاع حركة الأرجل المتساوقة مع النغم .
تعانقنا وضحكنا حتى الثمالة ورجعنا والمرح يملأ جوانحنا.
كلما كان النادل يرفع من صوت التلفاز ساعة نشرة الأخبار، يتطير من أنباء كورونا، وعدد إحصائيات الموتى والمرضى، وقد يقف ويغادر المكان غاضبا دون حتى كلمة وداع.
نادل المقهى ـ الآن ـ يصف الكراسي ويصفي حسابات الزبناء، تأكدت بأن صاحبي فاته الموعد ولن يحضر .
فجأة يرن هاتفي :
_ ألو عمي الوالد مات !
هذا صوت ابن صديقي، ذهلت وخضتني الصدمة ولم أصدق ما أسمع بيد أن الصوت يؤكد :
_ كورونا ياعمي قتلته لم يتحمل كبست أنفاسه :
أخرص النادل صوت المذياع :
« فات الميعاد ..»


الكاتب : المصطفى كليتي

  

بتاريخ : 14/01/2022