قصة قصيرة..فرصة

في السنة الثانية من ولوجي عالم الشغل، نزلت مرة بالمحطة الطرقية القامرة بالرباط، ومنها آخذ حافلة أخرى إلى المحطة الطرقية بنجدية بالبيضاء..
غالبا ما كنت أختار هذه الطريقة، أي أصل إلى الدار البيضاء عبر الحافلة أو القطار.. وهناك أقضي ليلة عند أقارب معززا مكرما، حتى أنه يبقى لي طابق من المنزل بكامله أستعمله وحدي للنوم.. وفي الغد أكمل الرحلة.
لكن في المرة هاته المشار إليها، جلست بجانبي شابة أنيقة، شهباء قليلا، شعرها ملولب في نهاياته، يغطي الكتف..
أتذكرها جيدا، كانت تلبس كنزة (تريكو) بخيوط قطنية بيضاء موشومة بتزاويق من نفس الخيوط عبارة عن مثلثاث مائلة بلونين؛ الأحمر والأصفر حول الذراعين وعلى محيط الجدع.
أستأذنتْ، وضعت حقيبة صغيرة لها على الرف، قمت، مددت يدي مساعدا..
رحبتُ بها بكلمة وبإشارة من يدي..
على أي فالمقعد شاغر، والحافلة ليست في مِلكي.
كنت في الثالثة والعشرين من عمري.. وهي في التاسعة عشر أو أقل ببضعة شهور..
شعرتُ بنوع من الارتباك الداخلي.. لم أفصح عن شيء من ذلك.. لكن، غالبا اعتلى وجهي احمرار.. لم أعرف هل تغمرني حرارة فيسخن جسدي؟ أم يقشعر بدني ببرودة يصفد على إثرها عرق مثلج!
الشابة جالسة بجانبي على هيأة أبي الهول.. في أبهة وانشراح وأنفة..
بدأت الحافلة تتحرك، ومساعد السائق متشبث بالباب الخلفي يجمع زبناء، ويصيح كي يسمعه آخرون..
قلت للشابة بعدما استجمعت كل قواي:
– هل تتوجهين إلى الدار البيضاء؟
(طبعا، كل من في الحافلة، تلك وجهته!).
التفتت نحوي، رأيتُ على وجهها ما يشي بابتسامة مخلوطة بتعجب..
ثم أجابت:
– نعم..
تنبهتُ لسذاجة سؤالي، فتداركتُ:
– هل ستنزلين بالمحطة أم قبلها؟
رأيتها تجمع ما بين حاجبيها، وتزم شفتيها، وتميلهما على الجانب الآخر.. ثم قالت مرة أخرى:
ـ نعم..
هل عليّ مرة أخرى طرح سؤال يتطلب «لا» أو «نعم»؟
بعد فترة صمت، أكتشفتُ فيها أننا تجاوزنا ملعب الكرة ودخلنا نطاق الطريق السيار.. ملت قليلا عليها، متعمدا طبعا، وسألتها من أي مدينة هي..
هنا نطقت جملة كافية، وإن كانت غير طويلة:
ـ أنا ماجية من مدينة (…).
مدينة شمالية أنيقة وعريقة.. يا مرحبا، يا مرحبا!
أي حظ هذا؟ أو أي منعطف هذا قد ألجه من حيث لا أحتسب..؟
بعد ذلك، فُكت عقد لسانينا، أو على الأقل لساني… فرُحنا نتساءل ونجيب… تحدثنا كثيرا..
عرفتْ أنني معلم حديث التعيين.. وعرفت منها أنها تتابع تكوينا في التمريض بالدار البيضاء، وتقيم مع جديها اللذين يعزانها كثيرا كما قالت..
ظهر لي أن زينب تلك لطيفة جدا..
اتفقنا على اللقاء مرة أخرى.. سجلت عنوانها على ورقة صغيرة انتشلتْها من مذكرة ورقية صغيرة أخرجتها من حقيبتها اليدوية..
لما نزلنا من الحافلة، أصرت عليّ بشدة كي تقدمني لجديها اللذين تعوّدا على انتظارها بسيارتهما في شارع خلفي قرب المحطة..
رافقتها، وجدنا بسرعة السيارة، ظهرت لنا في زنقة على بعد مائتي متر تقريبا… سيارة متوسطة الحجم، سوداء اللون..
قالت زينب وهي تهيئني للقاء:
ـ إنهما طيبان ومتفتحان، سترى..
نزلا معا عند وصولنا، احتضنت الجدة أولا حفيدتها.. ونفس الشيء فعله الجد، ثم تسلم الحقيبة ووضعها في الصندوق الخلفي..
حتى لا تطول حيرة الجدين نحو غريب يرافق حفيدتهما، قدمتني زينب بشكل التالي:
ـ مصطفى، التقيت به في الحافلة، معلم بإقليم (…). سيكمل رحلته إلى هناك..
رحب بي الجدان.. لمحت ابتسامة على وجه زينب.. قبل انطلاق السيارة، قالت الجدة:
ـ شي نهار جي عندنا.. مرحبا بك..
انطلقت السيارة، بقيت مسمرا في مكاني، التفتت زينب وهي تشير بيدها من خلف الزجاج..
عدت إلى شارع مديونة، ركبت سيارة أجرة حمراء، وطلبت من السائق نقلي إلى وجهتي بحي سكني واسع بالجهة الجنوبية..
نزلتُ من السيارة، أخذت حقيبتي.. سرت قليلا، دسست يدي في جيبي، أتلمس الورقة. لم أجد شيئا.. لم أسجل بذاكرتي سوى الحي الحسني..


الكاتب : مصطفى لمودن

  

بتاريخ : 03/05/2024