قصة قصيرة : مرآة

 

منذ مدة و انا أسیر رغبة و احدة: الحصول على مرآة.
في الطریق إلى العمل أمر بمحل لبیع الأثاث ، فأقف أمام مرآة طویلة ذات إطار أسود. أنظر إلى نفسي لبضع ثوانٍ ثم أنصرف. و كذلك أفعل في طریق العودة. مع الوقت تحول التوقف أمام المرآة و النظر إلى عادة.
ھكذا تَولدَتْ لديَّ رغبة شدیدة في الحصول على مرآة.
لطلما أحببت المرایا و النظر إلیھا. لیس فقط المرایا ، بل أي شيء له إنعكاس: كوب، ملعقة، إبریق، زجاج نافذة، واجھة محل… لكن كان لإنعكاس المرایا سحر خاص، یجعلني أنظر إلیھا مطولا، حتى دون ضرورة داعیة لذلك. متأملا ملامحي العادیة تماما، لوقت طویل جدا… حتى أنني كنت أجد مشاكل مع الحلاقین عندما ینتبھون إليّ و أنا أنظر إلى مرایاھم أثناء الحلاقة.
والدتي كانت تعاتبني كثیرا و أنا طفل على التحدیق الطویل في المرایا، خصوصا مرآة دولابھا، حیث كنت أتسلل إلى الغرفة و أجلس على حافة السریر: و أستغرق في التأمل. في إحدى المرات نزفتُ دما من أنفي . أمي أخبرتني أن شبح المرایا كان على وشك التھام روحي و أخذھا معه إلى العالم الخفي من المرآة. بعد ھذه الحادثة عشتُ حیاتي بین خوف من المرایا، وانجذاب غریب نحوھا.
كُنْتُ بلا والدین أو إخوة أو أصدقاء أو امرأة… أعیش حیاة وحیدة. لا شيء فیھا یحسسني بالانتماء . كنت شخصا لامرئیا . وحدھا المرایا كانت تمنحني الإحساس بأن لدي وجودا في ھذا العالم، حتى وإن كان مجرد أنعكاس عابر على قطعة زجاجیة.
أكره النظر إلى مرآة الحمام الصغیرة ذات الإطار الأبیض المصفر. أمامھا أغسل وجھي، وأفرش أسناني، وأحلق ذقني، وأراقب مظھري قبل مغادرة المنزل. كانت تُظھر فقط جزئي العلوي. كأنني رأس وعنق فقط، أما الأجزاء الأحرى من الجسد فكأنھا غیر موجودة. لذلك كنت في حاجة شدیدة لمرآة تُظھرني بشكل كامل لا جزئي. و كانت تلك المرآة الأنسب لذلك.
كل یوم أمر أمام المحل، صباحا و مساءا، كل شھر، طوال فصول السنة… أقف و أنظر إلى المرآة. أحیانا كنت أبتسم لنفسي، و أحیانا أكتم تلك الإبتسامة… “ھذا السروال لا یتناسب مع القمیص” ، “لم أحلق ذقني كما یجب الیوم”… أقول لنفسي و أنا أقف أمام المرآة. حتى عندما یمر المارة من ورائي فإنني لا أرى انعكاسھم، كان كل شيء یختفي من حولي فجأة : الناس، نفیر السیارات، ضجیج الشارع، السماء، ثقل أكیاس التبضع في یدي… عندھا تعتریني تعاسة مفاجئة، كأنني أقف أمام قوة غامضة تجعلني أرى العالم… إحساس مریر بالذات أشعر كأن كائنا آخرـ شبح المرآة كما تلقبھ أمي ـ یضع یده الثقیلة على كتفي، كأنھ یرید أخذني معه إلى عالم المرایا. أنتفض فجأة ، فیعود إحساسي بالعالم من حولي.
مثلما یحدث مع الحلاقین: أدرك تماما غیظ البائع كلما مررت من أمام المحل و
توقفت أمام مرآته.
رغم شغفي بالمرایا، لم أحلم یوما بمرآة… حلمت بكل شيء تقریبا، لكنني لم أرى یوما مرآة في أحلامي. لكنني في إحدى اللیالي حلمتُ بھا: المرآة ، مرآة محل الأثاث، تقف في ممر طویل ومعتم، و أنا أحاول الذھاب إلیھا لأرى انعكاسي علیھا،
لكنھا كانت تبتعد أكثر فأكثر… وفي نھایة الحلم سطع نور قوي كسر المرآة إلى قطع و شظایا.
ظل الحلم یرن في رأسي لیومین، حتى تشجعت و ذھبت لشرائها. دخلت المحل الذي بدا أكثر أناقة من الداخل. إنتبھ البائع إليّ و قال:
ـ مرحبا یا سیدي! ماذا ترید؟ أریكة، دولاب، وسائد…
ـ أرید تلك المرآة التي أمام المحل.
اشتریتُ المرآة. وأنا في الطریق إلى المنزل كنت سعیدا . لم یحدث أن كنت سعیدا بشراء شيء مثل ھذه اللحظة.
في المنزل وجدتُ نفسي حائرا في مكان وضع المرآة: في الصالون أم في غرفة النوم؟ لكنني انتھیت إلى وضعھا في غرفة نومي. ھكذا ستكون أقرب إليّ، و أكون أقرب إلیھا.. سأتمكن من رؤیة نفسي بشكل كامل الآن،حتى و إن كنت عاریا، حتى و إن كنت وحیدا… حَملتُ المرآة ـ التي لم أعتقد أنھا ثقیلة ھكذاـ إلى غرفة نومي..
أزحت قلیلا منضدة الزینة. وضعت المرآة ، بین الباب و المنضدة، و تأھبت للنظر
إلى المرآة كما أفعل أمام المحل… وقفتُ أمامھا تماما..لكنني لم أرى انعكاسي في المرآة.


الكاتب : محمد خلفوف

  

بتاريخ : 02/02/2024