قصة قصيرة : مليكة الكازاوية

عاشت حياتها مثل رشاش سريع الطلقات، طلقة تلو أخرى، مرحلة إثر مرحلة، تمر من هاته إلى تلك كأنها على موعد مع الزلزال.عاشت على الأوطورات السريع نفسه، الذاهب إلى الكارثة. يقلب الآن بين يديه صورها بالأبيض والأسود، الصور التي دأبت على أخذها في أماكن واستديوهات عديدة في كازابلانكا، الصور التي عشقتها وكانت ترى فيها مجسدة أرواحها الحية المتعددة .تبدو فيها مثل ممثلة مصرية أيام كانت الأفلام بالابيض والأسود، النظرات المسكونة تارة بنداءات الحنين والحزن الذي يبدو كغبار تذروه الريح A dust in the wind وبفرح طفولي غامر أحيانا أخرى .(ياه، يقول لنفسه ، مليكة تشبه في هذه الصورة تماما الديفا الرائعة التي غنت ذات سبعينات «ياك أجرحي» تلك الأغنية المترعة بأنين البلوز). يضع الصور جانبا ويسرح به الخيال، يحلق به بعيدا، في أجواء عليا ضاربة في علو لايقاس، في دوائر أثيرية شبيهة بالتواريخ السرية للضباب .يحاول أن يتذكر تاريخ ولادتها.لايتذكر بالضبط .مليكة صارت غبار انوهب للريح، أخته التي عاشت حياتها بسرعة 120 في الساعة ، باش كانت غادية باش كتدور، أخته التي خانتها السرعة في الأمتار الأخيرة، الفينيش، فسقطت قبل بلوغ خط النهائي سقطت en vrac ، كما البضائع التي تكوم في الأسواق التجارية الكبرى . في لحظة ماكتبت the end عند نهاية شريط حياتها .تكالبت عليها الأمراض القاتلة أسقطتها بالضربة القاضية في زاوية من حلبة حياة قاسية، مشوهة وبيضاء، بيضاء ناصعة البياض مثل استعارة لم يبدعها أحد. متى ماتت؟ .يعجز الشخص عن تذكر تاريخ وفاتها هل هو سنة 2000أو 2001لا يدري بالضبط، وحتى قبرها لن يستطيع الآن تحديد مكانه وسط المقبرة الشاسعة المترامية الأطراف .هي أخته صحيح ولكن تاريخي ولادتها وموتها ظلا مجهولين بالنسبة إليه. يتذكر بأن مليكة عاشت حياتها بالطول والعرض أو هكذا تهيأ له، اندغمت في المسارات والملذات والمتع الكبرى منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي .المدينة الكبرى شكلت مسرحا شاسعا ومغريا لتجاربها .لم تكمل دراستها لكنها تحولت منذ فترة المراهقة الى بروليتارية تعمل في لوزينات، تبيع قوة عملها لقاء دراهم معدودة لم تكن تتجاوز آنذاك خمسين درهما في الأسبوع .قضت سنوات من عمرها تكدح في معمل صغير للنسيج في بوركون، تصحو باكرا في الصباح لتقطع المسافة على الأقدام من الحي الذي تسكنه الى حيث يوجد مقر عملها، ولا تعود إلا حين يأتي الليل.لم تكن تعمل يوميا كل تلك الساعات الطوال .كانت تغادر العمل في بعض الأيام في الثانية بعد الزوال أو الرابعة، وتذهب صحبة رفيقتها من البرولتياريات للتنزه في كورنيش عين الذئاب،حيث الذئاب تصحو بعد منتصف النهار لتجوس خلل أدغال الكورنيش بحثا عن فرائس تنهش لحمها ليلا في الغرف الموصدة أو في الزوايا المعتمة لعلب ليلية جديرة بأن تكون أماكن ليمارس فيها الماركيز دوساد إسرافه الجنسي المتخيل .تلك العادة ، أي الذهاب إلى عين الذئاب وتمديد فترة التنزه إلى وقت متأخر من الليل، كانت في البداية الشكل الذي اتخذه تمردها كشابة مقبلة على الحياة. اندغمت مليكة منذ تلك السنوات البكر في ليل الذئاب، انسفح دم الحياة من شرايينها، اعتقدت بأن وضعها كبروليتارية تنتمي لوسط اجتماعي فقير، لن يمنعها أبدا من التمتع بمباهج الحياة ومسراتها .ما نسيته آنذاك هو الثمن الباهظ الذي ستؤديه في النهاية. يقلب صورها بين يديه، صور بالأبيض والأسود تعود إلى عقد السبعينات، وهي وسط مجموعة من النساء والرجال تمسك عاليا بكأس حياة، كأنها تشرب نخب شخص ما. لسنوات ظلت تكدح يوميا.تستيقظ باكرا في الصباح وتذهب مشيا الى معمل النسيج، لتحرق قوة عملها في أتون ساعات طوال داخل الفضاء الضيق الذي تسيجه الجدران وتضيء عتمته مصابيح معلقة في السقف الواطئ ذات مساقط ضوء باهتة، وعند كل مساء تفر صحبة اثنتين من رفيقاتها نحو أدغال عين الذئاب لتنخرط في احتفالات إسرافية إلى ما بعد منتصف الليل، أو تبدد أوقاتها في الزوايا المعتمة للبارات الغامضة وسط المدينة .أحيانا لم تكن تعود إلى البيت، تختفي أياما وسط الغابة الغامضة، ليفترسها الغول الشرس، غول كازابلانكا، غوتام الآثمة والعنيفة حيث تحترق الحيوات على نار هادئة، المدينة التي تختنق فيها الحياة ويفغم الخياشيم هواؤها الفاسد. رشاش الأحاسيس يطلق رشقات متواصلة على روحه المضطربة وهو يقلب تلك الصور الشبيهة بأدلة على الجريمة .أي جريمة؟ جريمة الحياة المشوهة في غوتام، المدينة –الغول ، المدينة- البلا – روح ، حيث ترمى شظايا الحيوات على قارعة الطريق مثل مناديل كلينيكس مدعوكة، مثل قناني البيرة الفارغة ، مثل المخلفات الورقية للساندوتشات .اندغمت مليكة عميقا في أدغال كازابلانكا .انفجرت الصراعات بينها وبين أفراد عائلتها وخصوصا أمها ذات الشخصية القاسية .يقلب الشخص الصور بالأبيض والأسود بين يديه، حوالي ثلاثين صورة ظل محافظا عليها سنوات بعد وفاة مليكة أخته .أمسك بين أصابعه صورة لها بالألوان وهي ترتدي ميني جيب، بصدر عار تقريبا ووجه مكسو بالماكياج وسيجارة بين أصابعها. تعود أحيانا في وقت متأخر من الليل تترنح ثملى. يتقيأها الطاكسي على الرصيف أمام باب منزلها تظل تطرق الباب مدة طويلة وهي تبكي وتنادي على أمها لتفتحه .كانت تتركها أحيانا في الشارع فتنام عند عتبته أو فوق عشب الحديقة القريبة وأحيانا أخرى تفتح أمامها الباب ، تدخلها وتجلدها بسوط من جلد الأبقار يترك علامات على جسدها ذي البشرة البيضاء أياما ثم تتركها لتنام على بلاط الغرفة وسط القيء والبول .مرارا هددت مليكة أمها بأنها ستنتحر إذا استمرت في تعذيبها بتلك الطريقة القاسية .ظلت مليكة محافظة إلى حد ما على التوازن بين عملها في معمل النسيج الصغير في بوركون، والهروب شبه اليومي إلى أدغال عين الذئاب الليلية وحصص التعذيب التي تمارسها أمها عليها أحيانا .كان الحفاظ على التوازن صعبا بين هذه الأقطاب الثلاثة المتناقضة، العمل ، المتعة والأم .حافظت عليه سنوات إلى أن اقتربت من الثلاثين بجسد مليئ بالنذوب والكدمات ، وروح مرهقة ورغبة عارمة في الذهاب عميقا في درب التيه والفقدان. لم تمنحها الحياة هدايا لكنها منحتها كوارث لاتعد ولا تحصى. مارست لسنوات صعود الجلجلة وحيدة، عابرة طريق ألامها وهي تدوس الأشواك بقدمين حافيتين داميتين ساحبة خلفها صليبها .آنذاك في تلك السبعينات الاستثنائية اعتقدت مليكة بأنه يمكن ممارسة الحرية بلا ضفاف في أدغال عين الذئاب. المرأة البروليتارية الجميلة كانت تذهب الى هناك لتغسل أدران العمل المضني، تنسى الأغلال والاستغلال لقوة عملها وسط سحب دخان السجائر، وكؤوس الحياة والأنخاب التي لا تنتهي . يقول لنفسه وهو يقلب صورها بأن لا أحد يملك سلطة للحكم على سلوكها وممارساتها آنذاك .هكذا عاشت حياتها .لا أحد يملك الحق للحكم على أخلاق الآخر .لم تكن مليكة ملاكا ولا شيطانا .كانت كما هي وكفى، بشخصيتها المتميزة وأذواقها المختلفة وانخراطها الإسرافي في عشق الحياة حتى الذوبان في حرائقها نهائيا .كانت مليكة أخته لكنها ظلت قريبة منه/ بعيدة عنه في آن ، وهو في نهاية المطاف لم تتح له الفرصة لمعرفتها جيدا .ظلت أيضا بعيدة عن أفراد عائلتها .عاشت كالمنبوذة ، أوغلت عميقا في المحو. الحياة الليلية وسط الأدغال أنهكتها تماما فاختل التوازن الهش والجهنمي بين العمل والمتعة والأم. تخلت عن عملها في معمل النسيج افترقت عن عائلتها وخصوصا عن أمها واكترت غرفة مع الجيران في حي هامشي وأدمنت الحياة الليلية مع الذئاب، سهر إلى الصباح، نوم طيلة النهار. تنام حين يصحو الآخرون .تصحو حين ينامون. بعد حوالي سنتين أو ثلاث بدأ الجسد ينهد. كست التجاعيد وجهها وهي في ريعان الشباب واجتاحتها الأمراض من فرط السهر والشرب والتدخين والتنقل عبر الأسرة .أصابها مرضان مزمنان دفعة واحدة. لم تكن تملك مالا لمواجهتهما فنامت في سريرها المهترئ في الغرفة التي لاتزورها الشمس أبدا وتعلو جدرانها الرطوبة .لم يزرها أي أحد، حتى هو نفسه الذي يقلب الآن صورها بالأبيض والأسود بعد سنوات من وفاتها لم يزرها .كان آنذاك يعمل في مدينة توجد في أقصى الجنوب ولم تسمح له الظروف بزيارتها .الأم القاسية جدا رفضت تماما زيارتها. وحدها جارتها ظلت تعتني بها الى أن سقطت في الكوما .قضت في المستشفى خمسة عشر يوما فاقدة للوعي تماما ثم ماتت وحيدة، معزولة ، منبوذة، صامتة. ماتت مليكة داخل الكوما. لا أحد من أفراد عائلتها التي نبذتها حضر طقوس جنازتها .ماتت كما عاشت بسرعة البرق .سكنت برقا يبدو كأبدية عمياء .ماتت وانتهى الأمر .الشخص لايعرف بالضبط تاريخ ولادتها أو وفاتها ، بالرغم من أنها ماتت بعد بلوغها الثلاثين من عمرها. يقولون بأنها السن التي يموت فيها الأنبياء والشعراء. لا أحد بإمكانه تحديد مكان قبرها وسط المقبرة الشاسعة . لا أحد .


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 01/04/2022