قصة قصيرة … منجم الموت

 

صراخ مهولٌ وعويل صارخ حارٌّ ينفجران فجأة من إحدى غرف قسم كوفيد 19، وينفجر معهما رعب شديد يتسرّب للغرف المجاورة، ويجتاح كل الزوايا إيذانا بخبطة عشواء أخرى للموت.
شيخ طويل القامة، نحيف البنية، حمراني اللون، بدوي الملامح.. لمحتُه أكثر من مرّة يمشي نحو المرحاض مترنحا من الوَهن. في نظراته عزم يفوح تشبّتا بالحياة، لكن مع ذلك يشوبُ العَزْم المستقر في وجهه ملمحٌ للشّك والريبة. ربما كان يُفكر في احتمالات مصيره المتأرجحة بين الرجوع لبلدته وربوعه وأهله، أو انقضاء أجله، ولفظ أنفاسه في هذا المستشفى البئيس.
ها جسدُه الآن خالٍ من الأنفاس، قامته الفارعة تمدّدتْ أكثر فأكثر. فمه الفاغر النحيف يوحي بمنقار مفتوح لصقر فارق الحياة. عيناه الضيقتان مغمضتان دونما حاجة لمن يُغمضهما.وعلى إيقاعات نحيب ابنتيه البدويتين. يرقص الوباء الكوفيدي طربا للموت، وجذلا للانتصار الساحق الذي ألحقه جيشه الجبار برئة هذا العجوز، لقد التهمت الكوفيدات اللعينة كل الرئة، لم تدع أية بقعة للتنفس، لم تترك لجسده أية فسحة للأمل.
هنا كورونا، هنا منجم الموت، غرف صلبة البناء، قوية التصميم، لأنها شيدت في عهد الاستعمار. لكن التقصير والعبث ضرب بأطنابه في كل زواياها، وشوّه ملامحها. المكيفات الحديدية المعطَّلة تعلوها طبقات كثيفة من الصباغة. في كل مرة تصبغ الجدران، تُطلى تلك المكيفات أيضا وكأنها أصبحت جزءا من الحيطان. الطلاء وحده هو ما تقدر إدارة المستشفى عليه، منذ وضعه المستعمر أمانة في يد الوطن. الطلاء الذي لم يستطع إخفاء العيوب.
بعض الممرضين صغاري السن، يعبثون مع بعضهم البعض، وكأنهم غلمان ينطّون من قصيدة نواسية. أما الممرضات، فهن في مقتبل العمر أيضا بعضهن صارمات جادّات في عملهن، وبعضهن تتبخترن في مشيتهن، وقد أحكمن شدَّ سراويل ضيقة على أردافهن البارزة والممتلئة. الموتُ عند هؤلاء الشباب حدث عادٍ جدا، يموت الواحد أمامهم دون أن يرف لهم جفن، بل أحيانا يُدعون لمحاولة إنقاذ أحد المرضى، ونقله لغرفة الإنعاش، لكنهم لا يستجيبون تحت تبرير أنهم يعرفون أن صاحب الحالة ميت لا محالة. الموتُ في الحركة، الموتُ في الإرادة، الموتُ في الضمير وفي المبادرة، الموتُ في الحياة. لا كرامة لمريض في مشفى، الموتُ هو الموتُ، مؤجّلا كان أم متعجِّلا. تذكرتُ إيقاع الموت بسبب الكوليرا في قصيدة نازك الملائكة. هكذا يكون حصاد الأوبئة، العربات الصغيرة داخل أجنحة المستشفى تنقل الجثث. هناك جثث تخلى عنها أهلها، لم تجد حتى من يذرف عليها قطرات من الدموع.
كنتُ أرقب المكان بعينين جاحظتين من هول ما أرى، أعمل مع بعض المتطوعين من مرافقي المرضى في مساعدة كل من يحتاج لشيء ما: قياس نبضات القلب، إضافة الماء لقنينة جهاز الأكسجين، بعض الأدوية التي كنت أحملها في جيبي والتي اعتاد الكوفيديون تناولها لتخفيض الحمى التي تلازمهم. وفي الجناح السفلي الذي كان الممرضون والمرضى يطلقون عليه «قطاع غزة» لهيمنة الموت على غرفه ودهاليزه، كنتُ أتكفل ليلا ببعض المرضى الذين لم يجدوا من يرعاهم.
في أحد المساءات أحضر بعض الجيران امرأة مسنة، من بعض القرى المجاورة للمدينة. لم يكن يبدو على سحنة وجهها أن المرض قد أوغل في جسدها، فقد كانت تجلس على السرير، تزيل قناع الأكسجين مراراً، وتتحدث في هاتف محمول صغير مع أحد أقاربها. صفحة وجهها منوّرة مثل زهرة اللوتس النقية التي بزغت من إله الضوء. امرأة بدوية قادمة من حقول النقاء. لباسها الأبيض زادها وقارا وهيبة. طلبت مني أن أزيد من درجة الأكسجين لأنه لا يعطيها الهواء الكافي. وجدتُ الجهاز مرتفعا عن آخره ورغم ذلك كان صبيب الأكسجين ضعيفا. ناديتُ على أحد الممرضينمن أولئك الذين تحنّطت الإنسانية في شرايينهم، وأخبرته بالمشكل. تقدم نحوها على مضض، وراقب الجهاز ثم وبنبرة من اللامبالاة وضح لي أن المشكل عام في كل أنابيب الأكسجين. لم تحتج المرأة، لم تقل شيئا، بل وضعت القناع على فمها، واستلقت لتخلد إلى النوم.
كنتُ رغم نومي المضطرب والمتقطع ليلا أستيقظ باكرا. أول شيء رأيته هذا الصباح، قبل خروجي من الصالة الكبرى في اتجاه المغاسل، تلك المرأة الممتدة على سريرها وقد غطت جسدها بإزار خفيف. ظننتها غارقة في النوم. ذهبتُ كعادتي إلى مقصف المستشفى حيث أحتسي قهوتي، وأظل هناك إلى حدود استيقاظ المرضى وذويهم. أعود إلى وادي الموتى فألاحظ حركة غير عادية. كانت المرأة غارقة في موتها. لا انتحاب ولا بكاء، بل فقط وجوم وحزن شديد في الوجوه. ليس لديها أي واحد من الأقارب. راجت الأخبار بأنها لا تملك أبناء ولا زوجا، فقط أحد أقاربها خارج الوطن هو من كانت تهاتفه ليلا، وتتحدث مع زوجته آخر حديث. الجيران الذين أحضروها هم من جاءوا لتسلّم جثتها.
حبستُ دموع العين، فسال بها القلب. لم أكن أدري أن الموت كان يتربص بها، لم أعلم أنه كان متخفيا كسلحفاة تحت سريرها. لو حدستُ ذلك لتفقدتُ حالتها خلال الليل لمرات، علّني أجد سببا لطرده أو تأجيله على الأقل. لكن الموت هو الموت الباقي. لا يمكن أن تقف حارسا أنفاس المريض، أمام هذا الطاغية الذي قد يباغت في أية لحظة، أحد هؤلاء المسنين الذين تقدمهم الحياة قربانا له. هنا تشرقُ الشمس على الموت، وتغربُ على إيقاعه. الموت سيد الشروق والغروب. يأتي من العدم ليزرع الفناء. رجال ونساء عالقون بالحياة، في هذا المكان الذي هو معبر للأرواح التي تتطاير في كل آونة وحين، لعلها تحلّق بعيدا وتسكن أجساد السنونوات المتموجة القادمة مع أول إشراقة لفصل الربيع، حيث يوشوش كل سونونو حذو نافذة بيت أهله حديث الشوق الذي يبزغُ لألاءً كضوء النهار.
بعد أكثر من نصف شهر، قضيتها في منجم الموت سأغادرذات صباح جميل، منحتني طبيبة أنيقة إذن خروج أمي التي تماثلت للشفاء وأفلتت من قبضة الموت، حملتُ حقيبتي ومستلزمات أمي، وقفت أتأمل هدوء المكان، وكأنني أشعر به لأول مرة.
وداعاً أيها الموتى.
وداعاً أيها الظافرون بقبس آخر من الحياة.
وداعاً أيتها الأرواح التي عشت معها هذا الزمن الذي تمدّد كدهر، قد نلتقي يوما ما، ونبني أعشاشنا بجوار بعضنا البعض.
وداعاً.


الكاتب : أحمد لطف الله

  

بتاريخ : 07/02/2022