قصة قصيرة : موتي الآتي

لا أستطيع أن أفسر هذا الذي يصيبني في كل مناسبة وفاة مررت بها، فأنا لشدة تأثري أنفصل كليّا عن ذاتي فأكون شبيه أحد هذه الروبوتات التي يتنافس في خلقها على صورة إنسان تقنيو الذكاء الاصطناعي، مختلفا عن أي ذات أخرى، مهما كان درجة القرابة التي تجمعني بها، ربما لتخفيض منسوب ما يملأ نفسي من ألم دفعة واحدة إلى حد أنني لا أعود قادرا على الإحساس بشيء قليل أو كثير من الألم، مثلما يحدث بالضبط للمغمى عليه بين يدي جلاد، حيث لا يصل الألم إلى حده الأقصى الذي يفوق الاحتمال إلا ويفقد الجسد وعيه، أما أنا فأنني أطل بعينين مفتوحتين ، أقلب وجهي في الوجوه من حولي ، وقد جمدت مشاعري، حتى وإن تبادلت مع هذا وذاك عبارات عزاء سريعة، مع معرفتي أن جثمان القريب الغالي العزيز يوجد وقد سُجِّيَ في هذه الغرفة أو تلك الحجرة أو تُرِكَ في الممر القريب من باب الخروج بعد الفراغ من غسله وإعداده ليشيع للصلاة عليه في أقرب مسجد ثم الإسراع بالذهاب به إلى حيث يوارى في منتهى السرعة حيث يكون قبره في انتظاره. في موعد محدد من النهار، في مقبرة يزدحم على بابها موتى ،وأبناء أموات، من بدو ومن حضر، عصر كل يوم، فرارًا من جحيم، لا أعرف إن كان هناك من يذكر أن نارها خبت ذات نهار، أو في أي لحظة ذات ليل ، فزبانيتها لا يعرفون الراحة، ولا يشكون لغوبًا أو نصبًا.
أبقى طوال مدة إعداد الميت للدفن منفصلًا عن ذاتي، أتجول بين الذين حضروا متجشمين وعثاء الطريق وتعب السفر، ليكون في بيت المتوفى، قبل خروجه في رحلته التي لن يعود منها، هم الذين لا يكفون عن النظر إلى ساعاتهم ، استعدادًا للحظة عودتهم إلى بيوتهم القريبة أو البعيدة ، وإن كلفهم ذلك أخطار السفر ليلًا، لا أفقد معرفتي بكل واحد منهم، ولا أطيل انشغالي بالوقوف عند حالة كل مشيع منهم، ويكون أن يلجأ بعضهم إلي لعزائي في الظاهر، لكن لأمر أخفى في الحقيقة، كما أن بعض أصدقائي يحولون الإحاطة بي لتثبيتي وتهوين فقداني قريبي المتوفّى عليّ، وقد يكون صديقا مخلصًا، فيلازمني مدة الجنازة ، بينما روحي تتضرع متضايقة من اقتراب أي كائن مني ، دون أن يكون في مكنة شخصي الثاني الذي يصرخ بملء كيانه ويهتف ويصيح بأعلى طاقة صوته، ولكن دون أن يسمع شيء من صراخ أو هتاف أو صياح تبتلعه أغوار بئر الذات ، ولا يظهر من أثر لذلك حتى في عينيّ، اللتين قلما اغرورقتا بدمع ، في سرعة خاطفة ، سرعان ما تهب رياح جفاف تساعدهما على الظهور بمظهر اللامبالاة، أو الصبر واحتمال المصاب، مهما كان قدر الفقيد.
في مقبرة تحمل اسم مؤسس، تحت شجرة زيتون قاومت اختلاف الأعصر، تحتل وسطها، يرقد منذ أزيد من مائة عام جدي لأمي، الجدث القديم اندثر إلا أنني أتذكر زيارتي إليه مع جدتي ، وأنا دون العاشرة، في إحدى مناسبات ليلة القدر، في مسائها السابق على أذان المغرب، و عند أقصى حائط الشرقي لهذه المقبرة ترقد جدتي نفسها، ، كما يرقد ميتان هما من أنجباني منذ أزيد من سبعين حولًا، لكنني وأنا أنقل هذا إلى صديقي الذي لا زمني منذ بداية الجنازة، كنت أقرأ في سحابة مربدة مرت بسرعة خاطفة فوق جبينه ، صرفها بسرعة خشية أن تتمكن منه ونحن نسير، فلقد كانت لحظ اندساسه هو قريبًا من جثمان أبيه، بين من دفنوا في باحة الضريح، عكس جده الذي كان أحد علماء الدين ، فأوصى بأن يدفن في جهة بعيدة ، وأن يعمق الحفار قبره في أعماق أبعد، ومثله كثيرون آثروا ألا تقام على قبورهم للزينة أو التفاخر.
حين انتهوا من إلقاء آخر حفنة تراب على الجدث، أحسست بانتهائي أنا أيضًا من أية علاقة لي مع جثمان الدفين.
وبعد أن اصطفوا في جانب من المقبرة لتلقي التعازي من كل من شارك بالحضور، وجدت قدميّ تطيران بي إلى أبعد مكان، لأعيش مصيبة الموت على طريقتي الخاصة، ولأستوعب ما يبقى ممن فقدته، وما لا فائدة من الوقوف عليه، إنهم في بلاد كثيرة اليوم يحرقون الموتى ويحتفظون في قناني خاصة برمادهم، الذي يعيشون معه أيامًا معدودات، ثم يذرونه في الأنهار أو الحقول، ليكونوا معهم في كل مواسم الإخصاب المقبلة – دفقات تتفجر في ينابيع ـ أو زهورًا تتفتح في بستان. أما عندنا فلا زالت الأبدان تترفت في قبورها، وتظل القبر وقفًاً على صاحبه إلى نهاية التاريخ، التي ليست إلا نهاية من يقرونه أو يعرفون الراحل المسكين ، متسولًا ضعيفًا كان أم مستبدًا فرعون.
أستعرض صورهم جميعاً الآن: ثلاثا من شقيقاتي، وجدتي وأمي ووالدي ثم شقيقي الأكبر قبل سنين، ثم بعض أصهاري، وأقرب أقربائي ممن انتشرت أجداثهم في جهات متفرقة من الأرض ، كما أستعرض معهم أوضاعهم التي ماتوا عليها، فأجد أنهم كانوا قد أسلموا الروح وهم على درجة من الضعف والانهيار المأساويين، فأجهش ببكاء غير مبالٍ بمن يسمع أو يرى أو يُسجل صورتي في مشهد ليس أفظع منه إلا ذلك الذي سأكون عليه يوم ألفظ آخر أنفاسي الأخيرة راجلًاً أم راكبا أم طائرًا أم مُحتضرًا على فراش يضيق بِنَتَنِي مصابًا بفيروس لعين، أو مضَرَّجًا بدمي وقد اختلطت أشلائي بأنقاض سيارة في حادث سيرٍ رهيب، أو نائمًا مبتسمًا في حلم لا يراه إلا رجل له طهر ملاك برئ. فمن مات مبتسماً حالمًا لا يُعَذَّبُ، في القبر كان أمْ بَعدَ ذلك لاتَ نشور.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 24/12/2021