قصة قصيرة : مُناصَفة

عندما كتبتُ هذه القصة، لم أكن أنا كُلِّيا، نِصفي فقط كان يَشدُّ على القلمِ. ولأنني لستُ أشْوَلَ، فقد كان نصفي الأيمن هو من يكتبُ. تخُطُّ يدي اليمنى الكلمات بكل أريحية. أمّا عن نصفي الأيسر فقد سافر نحو بلاد أوروبا التي يعشقها. لقد تعوّدا هذا الفراق، فأنا أعيش في كل نصف رغم اختلافهما الشديد، حيث لا تجمعهما سوى الكتابة. كما أنني بنِصْفَيَّ معاً لستُ متزوجا، أي لستُ مرتبطا بما يسمونه النصف الآخر، لأنني أصلا أعيش بنصفين منقسمين بالتساوي.
حدث أن انشطرتُ منذ سنين، تماما كما ينشطر البيت في القصيدة العمودية. فلقد أفقتُ ذات صباح بمشقة جرّاء إرهاق شديد شعرت به، فأخذت أتحسس جسدي بيدي اليمنى فلا أتلمس سوى النصف، ثم باليسرى فأتحسس النصف الآخر فقط، مددتُ يدي اليمنى نحو نصفي الآخر فوجدته منفصلا، ونفس الإحساس شعرتُ به وأنا ألمس باليسرى أطراف نصفي الأيمن. نظر كل نصف للآخر نظرة غريبة، فأغلب الأعضاء انقسمت. لحسن الحظ أنَّ جلَّها يتكوّن من زوجين اثنين. أما تلك الأعضاء الوحيدة فقد بقيت في الجهة التي تقع فيها، مثل القلب الذي بقي جهة اليسار. أما ما يوجد منها بين النصفين، فقد انشطر بدوره إلى شطرين متناظرين.
نصفاي تائهان، أفطرا معا، واقتسما لباسهما، واكتشفا أن لعنة ما حلّت بهما منذ أن أخبرني عرّاف وأنا أتجول بشاطئ أزمور بما سيحدث لي. كان ذلك أيام كنتُ واحدا مجموعا، تُوقِّع قدماي خطىً وئيدةً على الرمال المحاذية للبحر. لمحتُ ذلك البوهالي قادما من بعيد. استوقفني بإشارة من يده، وعندما كنتُ أتأمل لحيته الرهيبة، وأستقرئ من ملامح الجذبة الموغلة في تجاعيد وجهه ما يريد مني، انحنى على الرمل والتقط محّارا، ضربه بيده فانفلق، كانفلاق البحر استجابة لضربة عصا موسى. حدّق في عينيّ وقال: «هكذا»، ثم انصرف وهو يقذف بصدَفتيْ المحار في البحر.
منذ ذلك العهد، وأنا أعيش منقسما. لم يستطع نصفي الأيسر أن يعيش مع الأيمن، فقرر مغادرة الوطن، والعيش متجولا في أرجاء العالم، في حين فضَّل نصفي الأيمن أن يمكث في البلاد. نصف مواطن يعيش آمناً بين أهله. كما أنَّ نصفاي معاً كانا كاتبيْن. نصفي الأيمن كاتب ملتزم بقضايا المجتمع، وفق المعنى السارتري لمفهوم الالتزام، ونصفي الأيسر كاتب ملتزم بنفسه فقط، ذو نزعة بورجوازية، عاشق للبروج العاجية، والحياة المخملية.
هكذا استطعتُ بفضل هذا الانشطار العظيم أن أخلق أسطورتي الخاصة، ونأيت بنفسي عن اكتتاب أساطير الآخرين التي تمليها عليّ الكتب الصفراء الماكرة. كنتُ سعيدا وأنا أعيش حياتين مختلفتين، فلكل نصف عالمه الخاص به. هذا أفضل بكثير من عيش حياة واحدة. كان يميني (والياء هنا للمتكلم وليست للنسبة) كاتبا شعبيا لدرجة الشعبوية، رغم أنه لا يخلو من حسٍّ بوهيمي. يحب العيش في غرفة بسيطة فوق السطوح، يلتهم الكتب قراءة واستيعابا، ويكتب عن الكادحين والمنبوذين الذين يعيش وسطهم. يستهلك الليل في حانات تقدم أرخص المشروبات الكحولية. وانتقالا من حانة لأخرى يقيم طقوسه في التجوال داخل ليل بهيم يلف شوارع المدينة. لا بدّ أن يتسكع في شوارع محددة ليرى مومسات الليل تبعن أجسادهن لبعض الكادحين في عتبات العمارات بأبخس الأثمان، الأطفال المشردين وهم يقتسمون الكيس البلاستيكي المفعم بالسيليسيون، الشواذ وقد تزينوا وهم يحملون حقائب نسائية، يذرعون الشارع بمشية فيها غنج ودلال مصطنعين، لاصطياد بعض الزبائن،ثم المشرملين الذي يتجولون جماعات أو فرادى، لاقتناص غنيمة من أحد السكارى الذين تلفظهم البارات في وقت متأخر من الليل. وعندما تنتهي رحلة التأمل في هذا العالم يجد نفسه في حانة أخرى، وبين أصدقاء آخرين، فتحْلو الجلسة، ويحلى الكلام حتى تباشير الصباح.
يساري كان أرستقراطي اللغة، أنتلجنسي الفكر، تصدر كتبه عن دور نشر كبرى في طبعات أنيقة فخمة، يكتُب بأكثر من لغة، يؤمن بأوهام العالمية والكونية، ويتنقّل بين أجناس أدبية وفنية مختلفة، ويبحث عن العناوين الطنّانة لكبار الكتاب، فيقوم بتقليدها، وأحيانا بتشويهها. لا تروقه حياة البروليتاريين، ويرى أن الكتابة عن الفقراء مضيعة للفكر والحبر، لأنهم أصلا لا يؤمنون بجدوى الكتابة، إذ لا يمكن أن تبتاع الخبزَ نظير الكتابة.
وجود نصفايَ على طرفي نقيض، لم يشعرني بأية حيرة، لأنني لستُ طرفا ثالثا بعيدا عنهما، فأنا هُما، وقد انوجدَ كل منهما على شاكلته. لستُ سكيزوفرينيا، لأنهما لا يعيشان بداخل جسد واحد، بل أنا إثنان مختلفان لا ثالث لهما. وقد كنتُ داخلهما مرتاحا على هذه الحال.
بعد قضائه ليلة بيضاء، نهض يميني متثاقلا، وغسل نصف الوجه بيده، ونظر في المرآة، ليكتشف أنه لا يزال ثملا، فتوجه نحو بائع «البيصارة» واحتسى صحنا كبيرا منها، مرفوقا بكوب شاي ساخن. تجشّأ، ثم أشعل أولى سجائر النهار. وبدأ يجس نبض المجتمع عبر تجاذب أطراف الحديث مع أحد مُلمِّعي الأحذية. رنَّ الهاتف في جيبه، أخرجه وبدا مندهشا من اسم صاحب المكالمة. كان يساري على الطرف الآخر من الخط. منذ مدة لم يتحدثا. طلب يساري من يميني أن يلتحق به في أقرب وقت ممكن، لأنه حصل على جائزة عن إحدى رواياته، وحتى يستطيع تسلمها لا بدّ أن يكون كاملا، وليس نصفا. استغرب يميني هذا الطلب، ففي وطنه يمكن للنصف أن ينال جائزة، فكيف يُمنع ذلك في بلاد ترفع أقوى شعارات الديموقراطية والعدالة الاجتماعية؟ أين هي حقوق الأنصاف؟ يجب تأسيس هيئة للأنصاف والمناصفة، تدافع عن حق كل نصف بشري في أن يتمتَّع بالحقوق الكاملة للإنسان الكامل.
أراد يميني أن يسافر تلبية لرغبة يساري، لكنه مُنع من السفر لعدم توفره على جواز التلقيح ضد كورونا. وضّح للسلطات أنه ليس سوى نصف، وأن نصفه الثاني قد تلقى كل جرعات التلقيح، لكن المسؤولين لم يقتنعوا بكلامه، بل أخبروه بعد تأكدهم من قاعدة البيانات، أن نصفه اليساري قد أخذ أنصاف الجرعات فقط، وأجبروه على أن يأخذ نصف ما يأخذه الشخص الكامل العادي. وهكذا تم منحه جواز نصف التلقيح. فسافر والتقى بيساري الذي وجده ينتظره في المطار. وهناك اجتمع شملي والتحم نصفاي وأصبحتُ واحدا أجمع ما بين نمطين متناقضين من الحياة داخل جسد واحد. أصبحت سكيزوفرينيا حقيقيا. ولم أكدْ أتعوّد على هذه الحياة، حتى أيقظني في منتصف إحدى الليالي ألم غريب أسفل بطني، فأخذتُ أتلمس جسدي في الظلام، فإذا شرخ كبير يقسمني نصفين: نصف علوي، ونصف سفلي.


الكاتب : أحمد لطف الله

  

بتاريخ : 07/01/2022