قصة قصيرة … قرب سور الفكرة

 

طاردتها كي تمنحني متعة البوح، خلقت أعذارا كثيرة، اعتقدت النسيان مستحيلا، انشغلت عنها بأفكار أخرى، وحين طاوعتني، حضرت بكامل بهائها، لكني تفاجأت بحياد الأحاسيس، كما لو أني لم أعشقها يوما.
رغم البعد ووساوس الحرمان، أصابتني عدوى أبي الهول، احترفت الصمت، لم يعد ببالي سوى سلاسل خيانات وهزائم، ومن فرط الألم القاسي، صرت صخرة صلبة دون نبض ولا أحاسيس، وقديما قيل:» في الصمت راحة، وفي التجاهل قبر الأوهام.»
قلت بصوت مكتوم، مخاطبة الأحبة الموتى أقل ضررا رغم وجع الحنين، هي أجدى وأكثر نفعا من محاورة استيهامات الأحياء! الحي الغائب سيضحك على سذاجتك ويستسلم لدفء العشيرة وخَدَر ما تجود به تربة أرض لا تليق سوى بنبتة الشيطان، والحبيب الميت لن يخذلك ويزين لك أسباب العذاب!
آمنت بمصير المصدوم، حملت المعول ولوازم الحفر، وقبلها، زينت سور المقبرة بمرثيات جاهزة لإدانة أحياء الخونة، غير بعيد مني، ثنائي عاشق مستغرق في عناق طويل، لم أنس هوية الفكرة، شرعت في قراءة الشواهد وأسمائها العشوائية، داهمني شعور بالأسى، نهاية الماراطون تنتهي دائما بهذا الصمت الثقيل، وذاك الثري المعتوه يردد علينا هراءه المقزز قائلا:» أغنى مكان في الأرض هو المقبرة! «
تحاشيت أشواك الموتى المؤلمة، لم أدر متى انغرست في جمجمتي تلك الفكرة المقرونة بالرغبة في العناق والبوح، تواطأت الذئاب الآدمية على زرعها في دماغي، ملكني هوس الخوف من ضياعها، مارست علي غواية الحلم في قبيلة الدوخة المشاع، خدرت حواسي البريئة ، ساقتني نحو برج غامض ينتصب على قمة جبل موحش، وجدتني مسكونا بإصرار غريب، كنت الضحية الساذجة، وكانت الفكرة التي يحلم بها كل كاتب، لكن قانون الحياة لا يحمي المغفلين.
خدعتني الإيحاءات، زلزلتني حماسة الإيمان بفتنة دلالاتها المفترضة، أشعرتني بعبث التسرع وضرورة انتظار الوقت المناسب، لم أنتبه لاحتمال أنها قد تكون فكرة جبانة تربت على خيانة المعاني الممكنة، توالت الأيام وماتت، ولم يحن وقت الخروج من سجن الانتظار لعراء الضوء وجاذبية الإغراء والإبهار.
أنهيت التسكع وسط قبور المنسيين، توقفت عند السور المتآكل، وضعت جثة الفكرة جانبا، رفعت الفأس وهويت على الأرض الصلبة، تذكرت حكمة اليائس، تعيا الفأس من الحفر ما تعيا الأرض العطشانة، واصلت الضرب مدفوعا برغبة الانتقام من خديعة خانت كل التوقعات، وبين الفينة والأخرى أفحصها وهي ممددة قرب كومة التراب وأتأمل صمتها الجنائزي لأتأكد من صواب القرار.
وتلك الغصة المؤلمة المقترنة بالفقدان لم يعد لها وجود، استرجعت مشوار الحلم، ساعات ميتة بمقياس الساقط في خواء الهاوية، أسفار غبية في غروب لا طعم له، وأرق مجاني يجعل الانتظار تفصيلا من جحيم المدمن على نعيق غربان تهوى الرقص في حلبات الثعالب الماكرة.
قلقت كثيرا حين تأخر حضورها في الوقت المناسب، استعملت حيل الحواة وطقوس إحضار الجنيات السخيات، عاهدت نفسي على عدم الاستسلام، عنيد بما يكفي كي ألاعبها في الغياب، وشقي يرافقه الأسى في طريق مليئة بالعراقيل، وهزيمة الحاضر مجرد حلقة في سلسلة حياة لم أخسرها في معركة إثبات الذات.
قالت العرافة، عليك بالبحر، وحده يحتويك، ووحدها زرقته الحالمة سترغمها على الانصياع عن طيب خاطر، حملت همي للوحش الأزرق، نزلت منحدرا خطيرا يطل على صفحة مدهشة تتسابق فيها مويجات راقصة وهدير متوحش يفرض عليك مساءلة الدواخل المعطوبة، وجدتني أتلهف لمعانقة دفئها والسفر مع احتمالات المتعة ونشوة التأويلات، والمهووسون بعطر الجبل الخرافي قالوا :» البحر للعشاق!
قيل لي «هي مجرد فكرة» وهُم لا يعلمون ما تعنيه لعاشق مهووس بتفكيك أسباب الخيبة والظلمة المشاع، قلت لهم انتظروا لتروا أنها ليست مجرد فكرة بل جرح جماعي أمنحه من حزني الفادح ما يفضح خبث الأوغاد ويخلصني من مطاردة العبث !!!
في جو ماطر وبرد جارح، فاجأني خواء الذاكرة، أدهشني حياد النبض، توقف زلزال الاستيهامات، اضطربت كلمات الفكرة، صارت بقايا أنقاض ودمارا مسيجا بقسوة البياض، آمنت بلا جدوى المقاومة، لا معنى في فكرة ولدت ميتة، ولا شيء يبرر انتظار العدم، خلاصة قاسية لقياس منطقي يسبق لحظة الخلاص الأخيرة، وعجائز الحكايات المثيرة للضحك قلن في باب العجز عن البوح المنشود :» من أعطى عقله لغيره مماته أحسن من حياته!«
واصلت تعميق الحفرة بفأس العناد، ظلت ممددة على جانبي الأيمن بلا حياة، خانها ظنها واستطابت برج الغياب، اعتقدت أن الحكاية لا تكون سوى بحضورها، كثيرون أوهموها بأنها زينة الدنيا، لا يحلو السمر سوى بخدر دفئها المشتهى، أحبوها بصدق واستحالوا إلى عبيد يبكون قسوتها ويتسولون رضاها، ونسوا أن العاشق النبيل يكره سطوة الفكرة المتعالية عن هموم حلمه الكبير، لم يبك فقدانها كما فعلوا ولم يجعل الفوز برضاها مرشدا لاغتصابها وقت ظهيرة ثقيلة، لكنه كان الحر الرافض لموت الكاتب وشهرزاده رهينة الوعد الصادق.
آلمتني وحشية الفراغ، سقط في يدي سوء الظن المعهود، نيتي كانت سليمة، خططت لإهدائها حياة ذات معنى، حاولت إخراجها من كآبة العدم، اعتقدت إلحاحي ضعفا، وانتظاري نزوة حكواتي متعب، ومضت في تعنتها القاسي قائلة:» لن أسلمك زمامي لتشوه غموضي الجنيني بانزياحاتك الحمقاء».
في طريق ترابية توغلت في غابة دون وحوش، قريبا من الشاطئ الصخري، مشيت في اتجاه قلعة النسيان، فجأة.. ظهرت لي بكامل بهائها، متلفعة بياضها المثير، جنية تحتمي بابتسامة اعتذار، وفكرة منحوتة فوق جسد غجري يتصنع التمرد، تأملت ملامحها بحياد صقيعي، صدمني خواء الإيحاء، بدت لي جامدة كئيبة، والبياض الناصع فقد إغراءه المفترض.
أوهمتني بانصياعها لمشيئتي، فرحت بزوال الغمة، أخيرا طاوعت رغبة العاشق الأحمق، تخيلت مراحل عناقها ومحطات نيل رعشتها المشتهاة، جهزت لها البياض كي تتمدد فوق سريره وتبوح بأسرار التمنع، فكرت في البداية المشتعلة، طال التفكير، عجزت عن الكتابة، لم ألطخ بياض الحب الناصع بأي كلمة، خذلتني دون تأنيب ضمير واستغربت خبثها المزمن.
حاولت ملء الصمت الجنائزي، دار بيننا حوار الطاعة والإنكار، سألتها عن الهوية وسبب الحضور، قلت:
ــ من أنتِ؟ وماذا تريدين؟
ردت:
ــ أنا فكرتك التي عشقت، غادرت حلمك وجئت إلى واقعك.
ــ الحقيقة أنه لا فكرة لدي ولا أدري عماذا تتحدثين.
ــ حبيبي هل تتنكر لي وكنت تطاردني صباح مساء؟
ــ سيدتي، جمجمتي جوفاء ولم أحلم بك يوما
ــ ما علينا ها أنا الآن قد حضرت.
ــ قلت لك لا أعرفك ووقت حضورك غير مناسب.
ــ وما العمل؟
ــ لا شيء ، لكني سأنتقم ممن جعلني أقتنع بإيحاءات كلماتك وفتنة حركاتك .
كما لو أني غريب عن ارتدادات خدرها المخادع، استعدت ذاكرة التيه غير المقدس، مكان الاحتمالات المتناسلة وقت انتظار رعشة البوح المشتهاة، واجهت الفراغ، اعتقدت السراب الثعباني خلاصا، وعذابات المسير إلى الوهم في تضاريس الخواء، نواح الريح المحتفية بخيانات العدم، نحيب اليائس المحكوم بتداعيات الأسى والندم، ولا أحد يذكر الحكاية بأبطال انحرفوا عن سبيل الشهادة الوفية لجرح الدواخل المستباحة.
مسحت قطرات العرق عن جبيني، التفت إليها وقلت:» اسمحي لي يا فكرتي العاقر، حان وقت الرحيل الأخير، حملك كان كاذبا، وخيانتك للمتوقع كانت مجلبة لليأس والأسى وكآبة الشؤم والنواح، في الأفق أفكار لا تشبهك وإرهاصات حمل صادق عن حب قادني بعيدا عن وساوس عصيانك، ولذلك أقول لك وداعا .. في الحياة متسع للحلم والوفاء لمفاجآت الإبداع!».


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 17/12/2021