قصة كتابي الأول الإقامة في منطقة الآلهة

2

أمام ما أصبحت تعرفه الحركة الثقافية، منذ مطلع الـ 2000، من ركود وأمام الوضعية البئيسة التي تشهدها المكتبات العمومية وأكشاك بيع الكتب والمجلات… وأمام ندرة القراء وانقراضهم المتزايد، لم أفكر بتاتا في إصدار كتاب، حتى لا نكون عالة على بعضنا، حتى لا أكون سببا في قتله أو يكون سببا في قتلي.
وربما لذلك لم يولد كتابي الأول» قتلتنا الجثة « ولادة طبيعية، لم أعان مخاضه ككل الكتاب، ولم أفكر بالمرة في إخراجه إلى الوجود. كل قصصي القصيرة التي كتبتها ونشرتها، ذات يوم، بمجلات وملاحق ثقافية، وقفتُ بنفسي على دفنها هناك قبل أن أنساها.
لكن مجموعة من الأصدقاء كان لهم رأي آخر، هم من حرصوا على جمع تلك النصوص وانتشالها من قبورها المتعددة، وهم من هيّأوها للنشر في كتاب مستقل.
في الحقيقة، وبيني وبين نفسي، سرني الأمر، رحبت بالمبادرة بل دعّمتهم لإخراج الكتاب إلى الوجود، ولم يكن لي فضل سوى في مسح الغبار عن نصوصه، وإعادة غسل أطرافها حتى تكون في مستوى نقاء وحفاوة متلقيها الجميلين الذين كنت دائما أحلم بهم. وعندما رأيته لأول مرة، واقفا على رجليه، أنا الذي لم يخطر لي على بال، لم أصدق نفسي، حتى لا أقول إني أخفيت خجلي.
هل يمكنني أن أقول إن كتابي الأول قد ولد ولادة قيصرية، أم أكتفي بالتعبير عن شكري وامتناني للأصدقاء أنيس الرافعي وعبد الهادي السعيد ومحمد اشويكة وزهير فخري وبوجمعة أشفري مصمم الغلاف، ولكل من شارك في ارتكاب هذه الجريمة الأدبية النكراء والتي هي كتابي الأول.
لم أتصور أن يكون لهذا الكتاب موضوع إلا بعد أن خرج إلى الوجود، أوضح لي أن مراكش هي ثيمته، وأنني كتبتُ المدينة التي كتبتني. وأن علاقة الإنسان بالمكان ملتبسة، أحيانا تكتسي رداء الأمومة وأحينا جبّة العشق وأحيانا جلباب الألم والتيه. النشاز اللافت في هذه العلاقة تجسده علاقة الكاتب بالمدينة الأم أو الحبيبة أو العشيقة الخائنة… الملاذ أو المنفى. المدينة الخلفية المستترة لما يرويه الكاتب من وقائع وأحداث. قد لا يكون من اللازم أن نُذكّر بنجيب محفوظ الذي بالإصرار والتكرار حولته كُتبه إلى معلمة من معالم القاهرة، صار جزءا منها، يتكلم من داخلها وتتكلم من داخله. على عكس كاتب آخر من طينة فرانز كافكا الذي رغم قضاء كل حياته بمدينة براغ، فقد ظلت كل كتبه تطاردها وظلت تطارده، يكرهها وتكرهه. بل تخصص كتابه «المحاكمة» في رسم وجه براغ التجريدي الكريه، المحكوم بثنائية الحقيقة والخيال، الواقع والعبث.
أقنعني كتابي الأول، بارتباطي بمراكش، جعلني أشعر بدمائها الحمراء تسري في عروق كل نص من نصوصه، وبصفة جلية في نصه المعنون ب « مراكش «، البهجة، والحزن الصامت، والصبر، والنخيل العاقر، والصهد، والصمقلي… مراكش المذابة من ثلوج أوكايمدن والنازحة من سهوب ما وراء تافيلالت والمنفلتة من فلوات الحوز. وقبل ذلك وبعده، مراكش الفكرة والنص السري المدفون.
ارتبطت بمراكش بفعل حليب أمهاتي ومُرضعاتي المراكشيات المتعددات (1) ومع حليبهن رضعت مراكش بحلاوتها ومرارتها.
ليست مراكش بالنسبة لكتابي الأول هي دروبها وحوماتها وشخوصها وروائحها وأصواتها فحسب، بل هي كتلة الصِّلات والوشائج التي تربكني بها والتي تنبجس متسللة من بين نصوص الكتاب ومن ثنايا اللغة والثيمات المرتبطة برجالها المئات (2). أستطيع أن أقول أيضا إن وجدان هذا الكتاب قد ارتبط بإيقاع الدقة المراكشية والقراءات الجماعية لـ « دليل الخيرات « الكتاب الأول للكاتب الذي وُلدت عند عتبة ضريحه. وحتى عندما فرضت علي الحياة النفي من مراكش، ظللت منتميا إليها، إلى كتابي الأول، وجدانا ولغة ورؤيا.
وأختم هذه الشهادة بالاعتراف أنني قد قررت أن أسترجع صفتي البشرية، بفضل عدد كبير من أصدقائي، أن أغادر منطقة الآلهة التي اشتهر قاطنوها بإصدار كتاب واحد، الكتاب الأول والأخير، وذلك بإصدار كتابي الثاني في القريب العاجل.
(1) كان من عادة الأمهات في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أن يسمحن لصديقاتهن وجاراتهن بإرضاع أولادهن الحديثي الولادة، ليحققن لهم إخوة إضافيين وأمهات أخريات ووشائج قرابة مقدسة.
(2) وليس السبعة رجال الذين ظلت علاقتي بهم مشوبة بالشك والتوتر. ولا أدري علاقتهم بعنوان كتابي الأول « قتلتنا الجثة».


الكاتب : محمد عزيز المصباحي

  

بتاريخ : 18/12/2020