قصص قصيرة : ستة أبرياء

كان عددنا لا يتجاوز الستة، كان لكل منا كرسيٌّ متحرك، لا أتذكر أكان يتحرك بطاقة كهرباء، أم بجهد خاص من ذراع راكبه هنا أو هناك، لا أتذكر إلا أننا كنا مشتتين غير منظمين، لا يرى أحدنا وجه الآخر أو حتى أنه يتذكر من يكون. وأن لكل فرد منا هدفه الخاص الذي يسير إليه، ولا أتذكر أيضًأ إلا انتشار أصحاب هذه الكراسي على غير بعد، بين بعضهم البعض، وبين ذلك العدد غير الكثير من السيارات التي كانت تعبر على الطريق العام في تلك الساعة، على مخرج تلك المدينة البعيدة، في لحظة لا أستطيع تعيينها، يمكن أن تكون بين ضحى ذلك النهار أو بعد عصره بقليل، لكن ما لا أستطيع معرفته بالضبط هو سبب الحكم علينا بتقييدنا على تلك الكراسي: أهو ما تسميه العامة بداء السياتيك، فأنا لم أكن أشعر بأي من أعراضه كآلام في ظهري أو في أحد ساقيّ أو كلاهما، صعودا إلى فخذيَّ؟ أم سرطان في مرحلته الرابعة حيث لا شيء بعدها إلا القبر بعد آلام بلا طائل؟ أم شلل من نوع ما، أم إحدى علل كبر السنِّ الكثيرة مثلًا ، فأنا أرى بيننا أشخاصًا من أعمار متخلفة وتجارب شتى، ولقد كنت دائما أتخوًّف من لزوم بيتي، منقطعا عن الارتياض والدربة على بعض أنواع الرياضات غير المرهقة بالطبع ، ولو اكتفيت أحياناً بمجرد السير اليومي مسافة غير محددة، وكنت دائمًا شديد الخوف من أن أصاب بأية عاهة، تجعل قدميَّ تنتفخان لعلاقة بما أعانيه من ضغط دم دائم ، أو بما يصيب الركب عادة من ألم يمنع من الحركة الحرة الخفيفة، كما أنني كثيرًا ، ما أستعيد نصائح الأطباء، وما يرددونه عن فوائد السير القليل أو الكثير.
مقيدٌ أنا على هذا الكرسيِّ المتحرك، وقد ألقِيَ بي في مكان مزدحم غير آمن، أجول بعيني ممتلئًـا بالإحساس بغربة يكاد يقلقني، لولا هذا الرابط الذي يجمعني برفاقي الستة، رغم أنهم يقتربون على الطريق ويبتعدون، بين زحام يشتد ويخِفُّ، ومحاولتنا جميعًا أن نجتاز هذا المرتقى الذي وجدنا أنفسنا ندور أسفله،، فكَّرت ـ مع ألم لم أدع له أن يتغلب عليّ ـ في من سيشد من عضدي فيعينني على قطع الطريق، وبينما أنا كذلك، رأيت صاحبي الشيخ، في مكان أعلى أو أبعد قليلًا مني، لا شيء كان يمنعه من أن ينفجر ضحكاً وسعادة، إلا خشيتُه من أن يفاجأ بنا ونحن نحلق كنسور ، محطمين قيودنا، فملأ عليّ هذا رُوعي، إذ لم أدرك أكان صاحبي على كرسيٍّ مثلنا، نحن الستة، أم أنه كان يقف موقف المتفرج، فقد كان ينظر إليّ خاصة، بين العطف الكاذب، والتشفي الظاهر في عينيه، وبين انتظار خائف من أن أقوم أنا، أو أحد الستة، متحرِّرًا من هذا الكرسيِّ اللعين، ومن كل ما كان يملأني من أحاسيس كان مبعثها هو دون غيره، إذ أنه كان في نظري، الجديرَ بأن يخص بمثل هذا الكرسي، فإذا كان السبب كبرَ السن، فهو بكل تأكيد، يكبر أعلانا سنًّا بربع قرن أو يزيد.
ومع اشتداد حركة المكان، وكثرة السائرين به، وازدياد اضطراب الراكبين على كراسيّ من رفاقي، كانت أصوات السيارات تعلو، وظلام الليل يقترب من أن يعمّ العالم، بدا لي أن هذا أول المساء ،نعم، لكن ليس هناك من شمس أصيل به، ولا بدايات انتشار أضواء اصطناعية أو غيرها.، فكلنا، راجلين وراكبين، عابرو سبيل نحتاج الآن إلى من يعيننا على قطع هذه المسافة الطويلة، بين ملتقى الطرق هذا، في أدنى مواقع هذه المدينة، وبين دورنا التي تفرقت على أحياء بعيدة ومتفرقة فيها ، هنا وهناك. في « احْناين» أعالي «عين الحوزي» ، أو في «اللوبار» بأقصى «الصبانين «العليا، أو في «راس الماء» بأدنى « العنصر» و»وْطيوي» قبيل حجارة «باب المحروق» وزيتون « الفحفوح» ، أو في أبعد من أحراش «كرنسيف» ومسالك «غاروزيم» الوعرة بعد الوادي حيث تحد الأغراس بأذرع صبار شائك.
وقد كانت الطريق إلى كل هذه الأحياء تملأها دائمًا المرتقياتُ الكأداء والمنحدرات الوعرة الكثيرة الانزلاق، والحفر العميقة والحافات، وتضج ممراتها بوحوش تلتهم أعراض الناس، وعيون مدربة على مراقبة الحركات، وعرقلة الخطى وإرسال من يضع العصي خفية في عجلات العربات ، وعجلات كراسينا ليس لها من القوة ما للسيارات المجنزرات، أو حتى مثل ما لعجلات الدراجات، نارية أم هوائية.
صار موكب الستة، بعد ابتعاد أربعة عنهم، ربما كانت كراسيهم تسير بطاقة كهربائية، مجرد راكبَين اثنين على كرسيين، مقيدين الآن بمشاعر خوف غامر من ظلام لا يرحم، ومن نظرات تشفٍّ من عيونٍ ذلك العجوز نفسه، التي ما زلت أحس بأنها تراقبني لا تريد أن تدعَني، ولا أن تسألني، عين حاسدي وعدوي عن سبب الحكم عليّ بما تشهد أنني أجتازه من أشكال تعذيب يضاعف من تنكيله بنا، دون أن تستنكر ذلك، رغم تمام أدلة براءتنا، أو أن تبذل أي جهد لتخليصي أنا وكل رفاقي مما حلّ بنا، وقد تعرفتْ علينا، بينما نحن نعاني محنة التيه، وإثارة الانتباه إلينا تحت هذا الكابوس الذي سعى إلى كتم أنفاسنا بمنتهى القسوة والحقد، اخيرًا كجماعة في أصفاد، فوق كراسي العاهات المقهورة، أبرياء.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 22/10/2021