قطّ السّيدة جارتي

سَوداء. يتناثرُ زغبها كلّما احتكّتْ بشيء. وعَوْراء. غَفَّلْتها مرّة وأصبتُ عينها، لمْ أقصد أن أشقّها. يظنّني زوجي مجنونة، لكني أقول الحقيقة، تريدُ الاستيلاء على أشيائي! أنت أيضا تظنّني مجنونة! سأجدها وأجعلها تعترف، ولو كلّفني ذلك قلعُ عينها الأخرى.
بحثتُ عنها حتى كللتُ. ناديتُ، قلّدتُ صوتها وناديتُ، أثرتُ سخرية النّاس واستغرابهم، وشفقتهم عندما استبدّت بي حالة من التّهوّس والتّقمّص، فخبشتُ الطّوار بأظافري، ونتشتُ شعري، وصوّتُ كقطّةٍ رغيبة.
هبّت ثلاثة قطط، بهيئات مختلفة وألوانٍ متّسخة. اقتربوا منّي بجرأة لا مثيل لها، شمّني واحد منهم ومرغ في التّراب يحكّ فروه، ثمّ اعتدل على قوائمه وراحَ يرقصُ، صفّقتُ لذلك وضحكتُ بتعجّبٍ:
– أترقص؟ حقا أنتَ ترقص!
رقصَ ثمّ اخْتَفى. اخْتَفى تماما، وموسيقى كنتُ أسمعها اختفتْ كذلك!
اقتربَ منّي القطّ الثاني، لحسَ أصابعَ رجلي أصْبعا أصْبعا، ثمّ نام كأيّ قطّ يشعر بالأمان وينامُ. نظرتُ إلى رجلي. تكوّرتُ ما استطعت، شعرتُ بتصلّب ظهري وأنا أتقوّسُ لكيْ ألحسَ أصابعي، وفضول يجتاحني:
– ماذا تذوّقَ في رجلي؟!
بصعوبة وصلتُ إلى إبْهامي، مصصْتُه بلتذّذ القطّ. تجمّد ريقي في فمي، استحال إلى حبّات دقيقة من الأرز، بصقتُ أمامي، وضربتُ القطّ النّائم الذي تدحْرجَ بخفّة كنفّاخة وطار حيثُ يشاءُ الهواء!.
لوحدِنا أنا وهذا القطّ الشّبيه بقطّتي. أسود وضخم، لم يقدمْ على فعل، ولم يجرؤ على الاقتراب منّي، اكتفى بالنّظر. نفختُ في وجهه، لم يرمشْ أو يجفلْ، غير أنّه تحرك بفعلِ ما اضطربَ في داخله وتقيّأ سَمكة كاملة. سَمكة حيّة. سَمكة مَسْمومة. قال:
– هذا نصيبكِ!
قلتُ كأنّي أعرف أنه قطّ بمقدوره الكلام، قلتُ بلا أدْنى تفزّع:
– مثيرة للشّهيّة!
– هذه سمكة مسمومة، كُلي لكن لا تموتي، افعلي مثلي، فأنا لم أتسمّم، أنتظر أن أموتَ مَيْتَةً أخرى!
ثمّ قضمَ نصفَ السّمكة وَحلّق.
تابعتهُ ببصري، وقبل أن يختفي في دائرة مُسَيَّعَة بالسّخام، قال لي:
– لا تتركي زوجكِ في قبضة جارتك!

ومنْ الدّائرة نفسها تدفّقتْ جارتي سَائلا زفتيّا مُذابا، تجلّتْ قُبالتي بعد أن خَبَتْ سخونتها. وكانت تحمل ما يشبه جثة قطّ/قطّة:
– سَمّمته؟!
وطفِقتْ تقول لكل من تلاقي إني وضعتُ له سُمّا في معلّب السّمك. “السّم لا أعرفُ حتى شكله”. قلتُ وأنا أردّ على اتّهاماتها اللاذعة، كانت تلفعني بكلامها، أكثر ممّا قد تسبّبه ضربة هَرواة.
كفّت فجأة عن حرّها، واكتفتْ بنظرةِ ارتياب. ثم هاجتْ تخبطُ رأسها بمقبض الباب النّحاسي. استغلتْ خلاءَ الزّقاق من المارة، وتصرفت على هذا النّحو. لا أعرفُ لماذا؟ شرعتْ تصرخ، الجرحُ في جبينها الذي يشبه فم قطّة بدوره يصرخ. ذهلتُ من المنظر الدّامي، لم أفعل شيئا لمداواتها. إلا أنّني رميت يدي داخل فم القطة. فإذا أحكمت شدّها سأخرجها من رأسها. ماءتِ القطّة بحمّية، ماءت وتدمّتْ، ولم أخرج يدي، لم أشفق عليها، هل أشفقتْ عليّ لمّا تركتني لوساوسي وقهري؟!
– اخرجي..!
المواءُ يتحوّل إلى كلام أفهمه:
– دعي رأسي يا مجنونة!
في لحظة ما فقدتُ الإحساس بجسدي، ارتعشتُ بادئ الأمر ثم تخدّرت. كانت عاصفة الأيادي تجتثني، وتطوّح بي بعيدا. وأنا أُغْمى وَأَعِي رأيتُ زوجي كان يحملُ حَبْلا، رأيتُه يربطني. كما رأيتُ قطة سَوداء تطير!

أنتَ لا تصدّقني! من حقّك، ولكن ليس من حقّك أن تظنّ بي سوءا. فكّ وثاقي الآن. سمعتُ صوتا يأتي من المطبخ، قطّتي استعادت رشْدها وعادت. لن تطالبني بحقها في زوجي.
زوجي أنا! فكّني أقول! ماذا في وسعها أن تفعل؟ غير أن تموء وتنثر زغبها!
يريدُ أن يغيظني فيمسّد رأسها ويلهو بفروها، يقول لي:
– ناعم وحالك، تستحقّ حبّي واهتمامي!
أقول له بعد أن أمسكها من ذيلها وألوّح بها بعيدا:
– سأقتلها أو أعيبها!
وعبْتُها، جعلتُ عينها تنزف!
فكّ الحبل، لن يكتشفَ زوجي الأمر!
صفعني وشدّ شعري، زعق وشتم، وتوعّدني بالطلاق! بكيتُ حتى تورّمت عيناي. طلبتُ الصّفح، بصق على وجهي. وصعد إلى غرفة في السّطح!
نمتُ لوحدي. لأوّل مرّة يعزل زوجي بيننا ولا ينام بجانبي. كانت ليلة طويلة. لكنّي نمتُ بهدوء وسكينة. بيْدَ أنّ فكرة خطرت ببالي بغتة جعلتني أستفيقُ مرعوبة! “ماذا لو جاءت القطة لتنتقم؟ يلتقي بها زوجي في السّطح ويُدبّران خطّة للتّخلص منّي!”
اقطعْ هذا الحبل وحرّر يدي، حرّرني، إنّي أسمعها تشحذ سكّينا!
لم أنمْ! أنرتُ كلّ المصابيح وجلستُ على حافة السّرير أنتظرها. ستدخل في أيّة لحظة، ستظهر من العدم كشيطان! ستبدو مخيفة بعين واحدة! أشمّ رائحتها، أنفي لا يخطئ رائحة القطط، حركة على الدّرج، حركة خفيفة ورشيقة، ثمّ انكشفتْ أمامي بكل جسارة. ماءتْ كأنّها تنادي، أو تستعذر، أو جاءتْ تتوسّلُ الدّخول. كنتُ أحملُ هرواةً، كنتُ أحمل خوفا وغضبا وغيرة. ميّزتُها تقفُ بلا حراك، ربّما علّمها زوجي استخدام السّكين، وحذّرها أن تُصيبَ نفسها إذا أرادت إيذائي! ربما هي غير موجودة، تهيّأت لي بفرط الرّعب الذي يتولاني. أغمضتُ عيني، ودونَ سابقِ إشارةٍ أرسلتُ الهرواةَ بكلّ قوتي، أرفقتها صرخة مخيفة وزفيرا.
فتحتُ عيني، رأيتها تتخبّطُ بتقبُّض وعصبيّة. ما زلتُ ألهثُ، اقتربتُ أكثر منها. يُضاءُ مصباحُ السّطح فجأة، يتسلّلُ ضوء إلى الجثة ليكشف لي أن المسجّى ليس قطّتي! بل قطّ جارتي!!
اقطع الحبلَ ما عدتُ أصبر، اقطعه فلقد قطع زوجي رحمته بي، وقطع علاقتنا!
– ماذا فعلتِ يا مجنونة؟!
– اعتقدتُ..!
– قتلته..!!
ثمّ جرى يتصاعدُ إلى السّطح، غاب فترة وجاء يحمل حبلا، كان يصرخ وهو يربطني، لم أُبْدِ أيّ مقاومة. تركتهُ يحكم وثاقي. كنتُ أبكي، وكان يشتم.
وكانت جارتي بلباس النّوم تطلّ برأسها المفلوق من غرفة في السّطح، وتبكي مقتل قطّها. تزيدُها حزنا عينها المفْقوءَة.
ضمّها إليه بحنوّ ورأفة كما لم يفعل معي يوما
ودخلا الغرفة!


الكاتب : كمال الإدريسي

  

بتاريخ : 04/02/2022