قواعد العشق المجنون.. تذكريه بفرح

 

في باب العمارة الضيق تقف سلمى، ثم تصعد أدراجه المتسخة المثقلة بالتراب، يبدو المبنى كأن الأشباح تسكنه لا البشر… بعد أن انتشرت كورونا وسكنت العالم والمدينة والعمارة والبيوت والجدران…
تقف سلمى عند باب الشقة رقم 5 بالطابق الثاني، والتي تقطنها آمال؛ الصحفية العنيدة والمصابة بالفيروس اللعين، تطرق الباب وتتسارع الدقات دون مجيب، يبدو أن آمال في غيبوبة تامة أو أنها استسلمت لنداء الجسم المهدود، أو لربما لفظت أنفاسها جراء مضاعفات العدوى التي أصابتها بعد لقائها الأخير مع حبيبها الطبيب اللعين.
كانت قد ذهبت إليه بالمستشفى، بعد أن تجاهل كل اتصالاتها مكتفيا برسالة نصية مفادها أنه يعمل ليل نهار، وأنه لا يستطيع لقاءها، لأن الظرف لا يسمح بذلك… لكنها تحدت كل إجراءات المنع واستطاعت عبور كل نقاط التفتيش التي تشهر فيها بطاقتها المهنية في كل مرة، وتتحجج بها عند كل نقطة تفتيش لرجال الأمن المكلفين برصد كل من يخالف إجراءات الحجر الصحي، والمسؤولين عن استتباب الأمن في الوطن بهذه الظروف القاسية الحرجة…
تنتبه سلمى لوقع خطوات بطيئة شبيهة بنار تكاد تشتعل، وراء الباب الذي تفتحه آمال مواربا وتعود للكنبة الطويلة في فناء الگارسونيير الضيق، وقد خارت قواها بسبب مضاعفات الإصابة بالفيروس، تدخل بعدها سلمى محافظة على مسافة الأمان بينهما، تخبرها بأن عليها أن تتوجه حالا نحو المصحة وألا تبقى منعزلة وحيدة في غرفتها دون مراقبة طبية، بعد أن وضعت ثلاثة أكياس فوق الطاولة الصغيرة، كل ما فيها بعض الأدوية والفواكه، والشوكولاته السوداء التي تعشقها آمال بنهم طفولي لافت. من يستمع لسلمى يحس بأنه في حلبة حوار تلفزيوني لإقناع المواطنين بضرورة اجتياح المستشفيات لكل من يحس بأعراض الكوفيد، ظهرت كمن يرافع ضد وزارة الصحة التي أثقلتها الحالات المرضية، بشكل قد لا تستوعبه الطاقة الاستيعابية للأسرة بمستشفياتها المتهالكة، والتي ستزيد سلمى من معدلات التوافد عليها…
تحاول آمال أن تستجمع قواها مجددا، وتخبرها بأنها تمر بعارض صحي طارئ وأنها ستعود لحياتها الطبيعية بعد فترة نقاهة لا تتعدى أسبوعين على أبعد تقدير، ثم تتناول الشوكولاته السوداء من الكيس، المختلفة تماما عن الشوكولاتة الملفوفة في الأوراق الذهبية، التي دأب حبيبها على إحضارها لها عند كل لقاء يجمعهما.
تقول بأنه اختار الانسحاب من حياتها ككل الرجال الذين يرتبون للنهايات بمهارة، وأنه لم يسأل عنها طيلة مدة مرضها ومكوثها ببيتها، ثم تقف لتمد سلمى برزمة أوراق مكتوب عليها بعض الرسائل التي خطتها، ثم تراجعت عن مواصلة كتابتها ورقنها بحاسوبها، فقد عدلت عن فكرة إرسالها لحبيبها، وقررت الاحتفاظ بها لتوظيفها في مشروعها السردي عن قواعد العشق المجنون، الذي لم ير النور بعد.
سلمى وكعادتها تسخر من الحب والمحبين، وكل من يسبح في فلك وهمهما… تقرأ بعض الرسائل التي ناولتها إياها، بصوتها الخافت المنخفض، ثم تتلو بعض المقاطع على مسامع آمال التي أرداها الحب والمرض صريعة:
كم من الليالي ستمر على يديك الدافئتين بدوني.. لك نصف القلب، ولك ما شئت من المطر المؤجل بهذا الموسم.. فأنت الربيع وكل ما سينمو دونك هباء.. إنني هنا وحيدة أدرس ما فاتني في حديقة الوقت، وأرتل فيها كل آيات الغياب الذي اقتنصك وأسوي كل باقات الخيبات المتتالية بعدك.
تقلب آمال الأوراق، وتقرأ من جديد: لقد كانت رغبتك أن نلتقي أحيانا كلما سنحت الظروف بذلك، عكسي أنا التي كنت أمطرك بوابل من طلبات اللقاء، تماما كتلك الحماسة التي دبت في شراييني بعد كل المغامرات المصاحبة للقاءاتنا، قد لا تغفر لي غزارتي الملحة في ذلك فأنا امرأة ماتزال تؤمن بالحب، حتى وإن تخلفت في كل مرة عن الحضور وأمعنت كثيرا في إيلامي بالغياب.. سأكتفي بذكراك وسأظل انتظرك…
ويحدث أن نظل معلقين بين منتصف الأشياء، لا يحصل ما نحب ولا نحب ما سيحصل…
آه يا امرأة، كم تتقنين اللعب بالكلمات لكنك فاشلة في الحب، تقول سلمى… عليك فقط أن تستحمي وتأخذي دواءك وتخلدي للراحة حتى تتمكني من العودة لعملك، فقراؤك ينتظرونك وزملاؤك يفتقدونك.
صدقيني يا آمال؛ رجال العالم بأسره يعشقون الأنثى العنيدة اللا مبالية غير الآبهة بهم، تثيرهم عجرفتها وتجاهلها لهم، يكفي فقط أن تعودي لحياتك في كامل بهائك، وأن تنتظري وتحسني تدبير الوقت بدل الضائع في العلاقة، أن تواصلي حياتك به أو بدونه، لك أن تتذكريه بفرح مادامت مأساته قد جعلت منك كاتبة رائعة بدل عاشقة فاشلة، كلما تذكرته وقادك الحنين إليه، اكتبي لنا ففي كل ما تكتبين شفاء لروحك من حزن لازمك، وفرح لكل قارئة تعاني من أعراض الحب ومتلازمة الفراق مثلك، قد تستمد مما تكتبينه أملا في العودة، والبقاء لأنك آمالنا نحن وآمالهم جميعا… فقط انتظريه بمكر وتذكريه بفرح.


الكاتب : إيمان الرازي

  

بتاريخ : 27/02/2023