كأنه العماء

كثيرة هي الأسماء الإبداعية التي تحيا في صمت وتموت كذلك. وبين الصمتين تتراكم أشكال الحيف والتغييب ؛ دون أخذ قيمة النص بعين الاعتبار. وهو ما يثبت تهكيل « اعتبارات « أخرى تحارب على قدم وساق الاعتبار الذي يربك منطق الممارسات التي لا صلة لها بالثقافة والأدب ماعدا الادعاء واللهاث ـ بشكل فظيع ـ وراء الآني والفتات . في ذات الاطار، يغلب ظني أن الكاتب محمد غرناط واحد من هؤلاء الغائبين والمغيبين ، باعتباره كرس فترة طويلة من حياته للكاتبة السردية بنوعيها القصصي والروائي من أواخر السبعينيات من القرن السالف إلى تاريخ رحيله الأخير. يكفي أن نذكر في القصة القصيرة مجاميعه : « سفر في أودية ملغومة «، « الصابة و الجراد «، « داء الذئب» ، « الحزام الكبير» ، « هدنة غير معلنة « …وفي الرواية نعرض لـ : « متاع الأبكم «، « دوائر الساحل «، « حلم بين جبلين «، « تحت ضوء الليل « …وعليه، يمكن عرض بعض جماليات منجزه السردي، كونه أولا يشبه نفسه ككاتب منغرس في التربة المغربية. من هنا، يمكن تلمس المعالم والمحددات للمكان والشخوص السائرة والمقيمة بيننا . وهذا لا يعني التطابق القاتل للإبداع، بل المزج بين الواقعي والمتخيل ، ضمن سياق من التعارضات استنادا إلى مؤشرات بصرية ، في تشخيص المشاهد، الشيء الذي يمنح حرارة خاصة لمتونه السردية. والجدير بالذكر أن تلك المتون تصاغ ضمن حكايا تحافظ على عناصر السرد ، في تحرر من الخطية التقليدية . في هذا السياق، يولي الكاتب أهمية للمؤثرات الاجتماعية والنفسية في حياة الشخوص المندغمة مع المكان، لتشكيل لحمة وجود واحدة ، طبعا ، ضمن احتمالات حكائية. من هنا ، فالكاتب يولي أهمية للفكرة الحديرة بالتأمل ،ضمن حكاية مضغوطة، وهو ما يؤكد ـ في تقديري ـ أن الكاتب كان يكتب الرواية بمنطق القصة القصيرة، مما يجعنا في أعماله الروائية أمام لوحات مشهدية ،مشدودة بخيط واحد .
يحظى المكان في سردية الكاتب غرناط ـ باعتباره أحد المكونات الأساسية لأي عمل سردي ـ بأهمية قصوى حيث يلجأ المبدع لهذا الوسيط ؛ ليس فقط كمساحة تقع فيها الأحداث، وإنما كفضاء لا يخلو من حساسية ورمزية. وغالبا ما تشدنا القطعة الأدبية بأسماء أمكنتها وأصنافها التي تحيل بقوة التاريخ والثقافة على معالم محددة. وحين نطرح هنا المكان في الأدب، قد يكون عبارة عن مجموع متعدد، تبعا لتعدد مظاهر العمل الأدبي نفسه. فيتم بذلك التركيز على جانب معين من العمل الأدبي ومحورة، على ضوئه، العمل الإبداعي في كليته .
المكان بهذا التحديد في منجز محمد غرناط ، ليس إطارا أو خشبة مستقلة؛ بل إنه متداخل مع الشخصية كحمولة. فيغدو تقديم المكان وتصوير عناصره وحيثياته وتفاصيله، بمثابة تقديم للإنسان المنغرس فيه جسدا وقيما… . وطالما أن الأمكنة متعددة ومتنوعة، تبعا لزوايا النظر؛ فإنها تشكل مدخلا للتعرف على أنماط مختلفة من النماذج والتجارب البشرية . وقد أدى ذلك التبادل بين الصور الذهنية والمكانية إلى ذلك التداخل والتشابك بين الشخصية والمكان الذي يصعب معه فك أحدهما عن الآخر. فيكون بذلك المكان امتدادا طبيعيا للشخصية، كما أن نشاط الشخصية وتحولاتها، لا تتم إلا بالمكان، وليس في المكان فقط.
أريد التوقف أيضا على اللغة ـ عند هذا الكاتب ـ التي ظلت وفيه لنصيتها المنفتحة على اليومي والمتداول في استحضار للأطر المرجعية من أساطير وموروثات اللاوعي الجمعي . لكن عبر إعادة تركيب، في أشكال فريدة تمزج أو تعجن اليومي بالفصيح. وبالتالي تليين المتداول، وقد يفرز ذلك استعمالا لغويا ثالثا . إنها طريقة خاصة تجعل أعمال غرناط موغلة في تقعرات الواقع المقيمة أيضا في اللغة، لكن الرؤية الفكرية تمنح أبعادا لمنجزه. من هنا أرى ذاك التوازي بين الصياغة الجمالية والرؤية الفكرية ولا يتحقق ذلك إلا مع الكتاب الإشكاليين والحقيقيين.
نحن في حاجة حقا إلى اكتشاف هذه القارة (منجز الكاتب) عوض التناسي والعماء ، وترك الجرة بما حملت للضياع . وهو ما يجعلني أتساءل : لماذا التباكي المؤسساتي الأجوف دون القيام بأعمال تدخل في صميم هذه المؤسسات (الجامعة ، الجمعيات .. ) ..فتكريم الرجل يعني أن يكون مقروءا ، بشكل علمي لبناء ذاكرة مثقوبة لا تلوي إلا على البهرجة والزبد العالي قصد التوثيق والرسوخ في الحياة والتاريخ. فالرجل أهل لذلك في الحياة وبعد الموت ؛لأنه لم يسع لمآرب أو فتات، ولم يذهب لمؤسسة من أجل أي شيء ،ماعدا المكوث في النص الذي ينتظر الطرق . لهذا ، لم بستجد مؤسسة أو أحدا و لو في آخر أيامه على هذه الأرض. فمات واقفا كما كان يقول، وسيظل كذلك ، مقيما في نصه كسؤال بالمعنى العميق للكلمة . طبعا، تحية عالية السقف ، للأعمال التي كرمت هذا الرجل بالبحث والاشتغال ، وأخص بالتحديد عنقود الأصدقاء الذي يصر على المعنى أمام هذا العبث الزاحف .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 19/02/2021