كبوة بن فرناس، والعودة إلى مسقط الراس ( 3 )

إلى أصدقائي الشرفاء: عمال وأساتذة جرادة العام 1975 / 1976، وتلاميذي إناثا وذكورا وقد صاروا ما صاروا، وتفرقوا في أنحاء الوطن، وما وراء البحار. وإلى روح تلميذي النجيب، المحامي فيما بعد: محمد عبادي الذي لقيَ حتفه وهو في فتوته وأوج عطائه.

وها هو الصيف أدْبرَ، وأيام «الراحة والاستجمام « ولَّتْ وراحت، وكنتُ رجمتُ فكرة العودة إلى الكلية رَجْماً، وحَصَبْتُها بما كان في حوزتي من حصى المعرفة والكبرياء، ورفستها بحَدْوَة الهمة والعزم رَفْساً.
فماذا أنا فاعلٌ، الآنَ، وقد تفرق الصحب أيدي سبأ، وعاد من عاد إلى فاس، ومن أضرب عنها، والتحق بالمركز الجهوي للتربية والتكوين، أو انخرط في سلك وظيفة ما.؟
وجدتني بين خيارين أحلاهما مرّ، أو ـ على الأصح ـ أمَرُّهما حلوٌ، ففضلت خيار البقاء في بلدتي.. تحت سمائي الأولى حيث قذفت ذات سنة من عمر الزمان في برج فلكي يسمى برج الدلو، وشهر شتوي قارس غمر الثلج فيه كل جرادة، وغطاها حتى أن السماء والأرض تشابهتا واختلطتا على الرّائين فما يدرون أين يروحون، وأين يغدون، حسب ما حكت لي أمي. شهر يخافه الذئب فما بالك بالإنسان. الشهر الذي تؤرخ به مواليد السنوات والأعوام ويتجدد دمها ونسغها، شهر كانون الثاني، يناير: الشهر الأول في السنة في التقويم الجريجوري.
في بَيَاتي الاختياري، واعتزالي القصدي الموقوت لا عزلتي، اعْتَشْتُ واقْتَتُّ على ما كنزته من لحم أفكار، وشحم مبادئ، ودم مواقف متناغمة ومتنافرة، وعصب آراء متحالفة ومتخالفة. وما ادَّخرته من خبرات وتجارب على قلتها، تلك التي ناستْ بين الكبو والحبو، والمشي المتعثر والمتزن، وبين الاندفاع والخفة المسؤولة عما حاق بي، والتؤدة التي ما انفكت ترفع المنسأة عاليا في وجهي، مهددة، ناهرة، وموصية إياي بوجوب التفكير، وحسن التدبير، وتقليب الأمور على شتى أوجهها وأقفائها: بُعْداً وعمقا، وجَسّاً، وقابلية للتحقق والتطبيق، او استعصاء واعتياصا، لأقف على المنشود في رحلتي المضنية، وطيراني اللولبي بين الغيوم والأكدار، ومُضْطَرِبِ المتن والثرى والأحجار. وفي ثنايا ذاك المنديل المصرور، وداخل أمل خائر وخاثر، أو عزم خفي وماثل وظاهر.
وإذاً، فقد قَرَّ عزمي على البقاء والاستقرار إلى حين تنجاب الغمة، وينقشع الغبار، ومتى ما دعا داعي الهجران إلى مكان غير المكان، تَبْعاً لما يستجد من ظروف، وما يطرأ من صروف، وما يتنزل من وقائع مباغتة.
احتجت لمِخْزَرٍ وكان فكريا ومعنويا لوصل خيوط ما انقطع بالحاضر وبما هو آت. واحتجت لإشْفَى أدبية وإرادية لرتق ما فُتِقَ، وجمع بين ما تولى وما أنا مُقْدِمٌ عليه، وساعٍ بخطى حثيثة إليه.
فكرت مليا في ما عُرِضَ عليَّ وما نما إلى علمي من أن ثانوية سيدي محمد بن عبد الله بحاجة إلى أستاذ للغة الإنجليزية. قلت: فلأَهْتبِلْها فرصة سانحةً لأكون ذاك الأستاذَ فأملأَ أيامي بما استلذذته ورنوت إليه دوماً، وهو التدريس، والتواصل مع التلاميذ، حتى أن نجمة السعد لو طَلَّتْ، فالأمر سيكون لي ربحا وأيَّ ربح إذ سأدرس أبناء مدينتي، على مقربة من منزلي المحشور بين دور الحي المغربي.
طرت إلى وجدةَ، وتحديداً إلى نيابة التعليم الإقليمية. وضعت طلبي، وعدت إلى عشي البهي، منتظرا بين اليوم والغد وما بعد الغد، أن تصلني موافقة النائب لأخوض غمار مهنة لا أشرفَ ولا أشقَّ، ولأشرع في إعطاء دروس اللغة الإنجليزية.
أعطيتها كمكلف بالدروس، وكمنقذ لتلامذة العلوم التجريبية الذين انتظروا، عبثا، تعيين أستاذ المادة في الوقت المناسب.
سيظل تاريخ: 18 أكتوبر 1975، غرَّةً في مساري، محفورا في وجداني وقلبي وعقلي، قبل أن يكون مدونا في الأوراق والوثائق. إذ فيه تسلمت « مقاليد « التدريس والتعليم. وفيه تشرفت بتواصلي مع تلميذات وتلاميذ قضيت وإياهم حوْلاً ونيّف، حوْلا أعده واحدا من أحفل وأَرْوَق وأبهى ما طبع حياتي. كنا نتقارب من حيث الأعمار، كنت في العشرين من عمري، فتى يفيض حيوية ونشاطا، وحضورا هنا وهناك، وهنالك: نحلة لا تكف عن الطنين والأزيز، أو زنبورا يلسع ويزعج. كنت مدرسا مجتهدا ومُجِدّا ما وسعني الجهد والطاقة، في تقديم وعرض الدرس بلغة شكسبير، ديداكتيكيا وَمَسْرحَةً لتبسيط النصوص، وتحبيبها للتلاميذ. لذلك فزتُ بثقتهم، وكسبت ودهم وصداقتهم، وهي الخلال التي لا تزال قائمة بيننا إلى حدود اليوم.
وكان أن اغتنمت فرصة استقراري المؤقت بمسقط رأسي: مدينة جرادة وهي مدينة عمالية بامتياز كما لا يخفى، لأستأنف حُمَيّا النضال الذي فَتَرَ طيلة أشهر الصيف الثلاثة.
ألاَ يجدرُ بي، وأنا الجراديُّ، أن أشارك العمال ـ وهم آباؤنا وأمهاتنا، وأصدقاؤنا، وجيراننا ـ تراجيديا حياتهم، ومأساة معيشهم، وبؤس ظروفهم، وبشاعة ما هم فيه من استغلال، بتفتيح أعينهم على ما هم فيه من ضنى وعذاب، ورفع منسوب الوعي لديهم، وتعليمهم لينخرطوا، مقتنعين، في النضال من أجل تغيير أوضاعهم، ومن ثَمَّ، أوضاع أبنائهم وبناتهم، وهم يرون مرأى العين، كيف أن أبناء « الذوات «، و» الأكابر» المهندسين فرنسيس ومغاربة، و» الشّيفانْ « يختلفون إلى ملعب كرة السلة، وإلى المسبح، وإلى الغابة المجاورة للاستمتاع بالشجر والهواء والشراب، والأكل اللذيذ. ويسافرون إلى وجدة نهاية الأسبوع، وإلى شاطيء السعيدية، ورأس الماء كل صيف لتتَحَمَّصَ أجسامهم على مِقْلاة الرمل والشمس اللاّهبة التي يطفئون لظاها في زرقة البحر، وبرودة مياهه، وثبج موجه، وتزاويق صخوره.
هكذا، شرعت أتصل بالعمال مُحاذِراً ومُخَطِّطا، حيث شكلنا جماعات مصغرة أولى، خلايا أوكل إليها مهمة التواصل والإقناع والاستقطاب، صارت، مع تدحرج الأيام، تكبر وتتوسع كالدوائر المائية حين نلقي فيها حجرا. أؤطرهم في دور « سرية « بين جرادة وحاسي بلال، وما بينهما من غابة وأودية وشعاب. مستلهما ما يهزني في معيشهم الضامر، وحظهم العاثر، وسكناهم الأشبه بالأوكار عديمة النوافذ والشرفات، والصالونات، والأفنية، والأحواش الوسيعة.، وبما أفيده من أدبيات حزبي في ذا المضمار، وكان حديث العهد بتغيير الاسم من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي.
كان الحماس متقدا، والنقاش محتدا لا ينتهي، والعمال جيئة وذهابا، وهم في أغلبهم، شباب ورجال دون الأربعين. وكانت عيون السلطة ترصدنا، وتتعقبنا، وتتقَفَّى خطوي / خطونا، وتدس بيننا من يخبرها، وينقل لها ما قلناه، وما اتفقنا عليه، وما سنخوض فيه. فقد لُحِقْتُ مرات وكَرّات، وحاول رجل السلطة المسؤول، استدراجي وتدجيني، وهو يستدعيني إلى مكتبه ـ هاشّاً باشّاً ـ عارضا عليَّ من الإغراءات ما يثير شهية النفوس الضعيفة، وما يجعل المتذبذب المهزوز، يتلقف العرض تلقف الجائع اللهفان، ويُكِبُّ على الحوض الملآن إكْبابَ الظاميءِ الصَّدْيان.

( يتبع )


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 26/11/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *