كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «بوطاهر اليطفتي آل عزيز»

 

ظل شمال المغرب منجما ثريا لإنتاج الرموز والقيم الحضارية، وظلت المنطقة واجهة مشرعة أمام جهود ترصيص الهوية الثقافية المشتركة لساكنة المنطقة. فكانت النتيجة، بروز تراكم فكري وثقافي ثري ومتنوع، يشكل رافدا مركزيا داخل النهر الدافق للمشهد الثقافي الوطني المعاصر. وعلى الرغم من أهمية ما حققته المنطقة من تراكمات تأسيسية خلال مرحلة الحماية الإسبانية، سواء في المجالات الفكرية أم الإبداعية أم الإعلامية أم الثقافية، مما تشهد صحافة المرحلة على خصوبته، فإن الكثير من عناصر عطاء تجارب الذوات الفاعلة قد توارى خلف ضجيج المرحلة وخلف فقاقيعه المتناسلة. ويمكن القول، إن كتابة التاريخ الثقافي لمنطقة الشمال، لن تكتمل أركانه إلا بالانكباب الجدي على تجميع تفاصيل تجارب الذوات الفاعلة والأعلام المؤثرة، وخاصة على مستوى التأصيل لشروط البحث في تاريخ الذهنيات وفي أنساقه المتداخلة والمنسجمة مع منطق اللحظة الاستعمارية على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية.
في إطار هذه الرؤية العلمية الأصيلة، استطاعت الأستاذة هدى المجاطي اكتساب الكثير من عناصر السبق والريادة، بالنظر للجهد الكبير الذي بذلته في مجمل تنقيباتها وحفرياتها التي وضعت شروطها العلمية الإجرائية منذ أن دشنت عملها حول الموضوع بإنجاز أطروحتها الجامعية لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع «الحياة الثقافية في شمال المغرب من خلال الصحافة المكتوبة (1912-1956)». والحقيقة إن الاشتغال على هذه الأطروحة، لم يكن –أبدا- نهاية المسار بالنسبة للأستاذة المجاطي، ولكن بداية التأصيل لتجربة أكاديمية رائدة صقلتها الأستاذة هدى بالكثير من الصبر ومن الجهد ومن الأناة، بحثا في خبايا تجارب الأعلام والرواد، وتصنيفا لعطائهم، واستثمارا لذخائر مكنوناتهم. ولقد جمعت الأستاذة المجاطي في ذلك بين مجالات متكاملة في جهود التنقيب والنشر، أهمها الانخراط في الدرس الأكاديمي المتخصص عبر أدواته الإجرائية العلمية المعروفة، وتعزيز المسار العام بالانفتاح على «الحقول المجاورة»، مثل العمل الجمعوي والنشر الإعلامي والمشاركة في اللقاءات والمنتديات العلمية المهتمة. وبهذه الصفة، أضحت الأستاذة المجاطي، واحدة من بين أبرز الباحثين المغاربة المعاصرين المتخصصين في رصد إبدالات المشهد الثقافي الجهوي الخاص بمنطقة الشمال، من خلال سير الأعلام الفاعلين وعطائهم المرتبط بالقيم الحضارية الكبرى، بامتدادات ذلك المباشرة على مجالات التأثير والفعل المباشرين في مختلف الحقول السياسية والاجتماعية والإعلامية والثقافية لمنطقة الشمال خلال عقود القرن الماضي.
في إطار انسياب مجرى هذا النهر المتدفق، يندرج صدور كتاب «أعلام من شمال المغرب»، عند مطلع سنة 2020، في ما مجموعه 194 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد اختارت المؤلفة تخصيص مضامين السفر الأول من «أعلام من شمال المغرب» للاحتفاء بتجربة المرحوم بوطاهر اليطفتي آل عزيز، أحد أعلام الفكر والثقافة بالمغرب الخليفي خلال عهد الاستعمار الإسباني. ويبدو، من خلال تقديم المؤلفة، أن العمل يشكل حلقة في مشروع مسترسل وممتد في الزمن، جعلت المؤلفة من أهدافه الكبرى الانكباب لتجميع ذخائر التراث الثقافي والعلمي والإعلامي الذي خلفته نخب مغرب النصف الأول من القرن 20، وفق رؤى مجددة، تعيد الاحتفاء بأعلام النبوغ والتميز الذين صنعوا عناصر البهاء الثقافي والحضاري على امتداد العقود الطويلة الماضية. ولتوضيح الإطار العام الموجه للبحث وللتنقيب الخاص بتجربة بوطاهر اليطفتي آل عزيز، تقول المؤلفة في تقديمها للكتاب: «بعد حصول المغرب على استقلاله السياسي، لاحظنا أن بعض الأعلام المذكورين تواروا عن الساحة الثقافية، لأسباب مختلفة، وكان أحد الغائبين الأستاذ بوطاهر اليطفتي الذي تشهد له صحافة الشمال بالإسهام في المجال الثقافي والديني بمقالاته التي نشرها في مجلات: الأنيس والمعرفة ولسان الدين.. وفي صحف: الشهاب والنهار والوحدة المغربية ومنبر الشعب.. وقد رأيت من الواجب الأخلاقي والعلمي التعريف بكل الذين أسهموا في الحركة الثقافية اللافتة للأنظار في مرحلة الحماية. ولما كان الأستاذ بوطاهر –رحمه الله تعالى- واحدا من الذين أسهموا في هذه الحركة المباركة، صار من حقه على البحث العلمي ببلادنا أن يهتم بجهوده ومشاركاته، لذلك أفردت للرجل بقدر مما يستحقه من العناية وأفردته بهذا التأليف الذي يعرف به وبإسهاماته الأدبية والفكرية…» (ص ص. 3-4).
وللاستجابة لأفق هذا المطلب، سعت المؤلفة إلى توزيع مضامين عملها، بين حقول متراتبة، اهتمت في أولاها بالتعريف بشخصية بوطاهر اليطفتي في تقلباتها المختلفة، وانتقلت في الفصل الثاني لتقديم بعض النماذج المنتقاة من كتاباته الغزيرة التي دأب على نشرها على صفحات عدة منابر إعلامية من مجلات وجرائد مرحلة الاستعمار الخليفي، وهي الكتابات التي شملت مجالات مختلفة، مثل التاريخ والدين والتربية والاجتماع… وفي الفصل الثالث، اختارت المؤلفة تعزيز عملها بإلحاق شهادات دالة عن سيرة الرجل وعن إسهاماته الغزيرة على أفواه من عاشره عن قرب وخبر فيه الوطني الوفي، والمثقف الغيور، والمصلح المجدد.
ويبدو أن النصوص المنتقاة، قد نجحت في تقديم مواد دفينة، غير متداولة على نطاق واسع بين الباحثين، مما يساهم في نفض الغبار عن مكنوناتها، وفي تيسير الاطلاع على مضامينها، بل وفي تحفيز الباحثين عل استكمال عمليات النبش والتجميع والتصنيف. فالتاريخ الثقافي لمنطقة الشمال يظل من الغنى ومن التنوع بشكل أصبح معه موضوعا متجددا بامتياز، وحقلا أثيرا للتثمين ولإعادة التقييم. وفي هذا الجانب بالذات، استحقت الأستاذة هدى المجاطي اكتساب قصب السبق في وضع اللبنات التأسيسية لدراسة معالم الخصب والعطاء والتجديد داخل حقل ذاكرتنا الثقافية المشتركة، تجميعا للمتون، وتعريفا بالأعلام، وتقييما للعطاء، واستثمارا لقيم الانتماء للهوية المركبة لمنطقة الشمال، ولظلالها الوارفة والممتدة عبر كل أرجاء الوطن.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 09/03/2020