كتاب «الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي»

 

كتاب «الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» كتاب صدر سنة 2014 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمه إلى العربية عمرو عثمان، من تأليف وائل حلاق، الباحث المختص في الدراسات الفقهية وتاريخ الفكر الإسلامي. أطروحة الكتاب بسيطة ومؤداها أن نموذج الحكم الإسلامي الذي يتوق إليه الكثير من معاصرينا مستحيل التحقق في ظل الشكل الراهن من التنظيم السياسي المتمثل في الدولة الحديثة. وفي مسعاه لإثبات فرضيته، لا يغوص وائل حلاق في جدال نظري حول ما إذا كان الإسلام دينا ودولة أو دينا فقط، كما لا يضفي هالة من القدسية على مشروع الحداثة أو يزعم بأنها أقصى مراحل التطور البشري، بقدر ما يتساءل من منطلق عملي وواقعي حول ما إذا كان نموذج الحكم الإسلامي ممكن التحقق في ظل الشرط الحضاري والسياسي الحالي.
إن مضمون الدولة الحديثة يعتبر عرضة للتغيير، فقد يتداول على حكمها ليبراليون ويساريون ومحافظون وغيرهم، إلا أن خواصها الشكلية تتسم بالثبات لكونها تشكل جوهر الدولة الحديثة التي لا تقوم لها قائمة من دونها. ويمكن حصرها في خمس خواص رئيسة بحسب المؤلف: أن الدولة الحديثة تعد نتاجا أوروبيا خالصا، السيادة الشعبية كبديل عن الحكم الثيوقراطي، احتكار العنف المشروع كوسيلة لضمان إنفاذ القوانين، الجهاز البيروقراطي للدولة (لاحظ ماكس فيبر أنه بالرغم من الثورات العديدة التي عرفتها الدولة الحديثة وما أفضت إليه من تحولات، ما فتئ الجهاز البيروقراطي والإداري للدولة يعتبر عنصرا أساسيا في تشكيلها)، وصولا إلى خاصية الهيمنة الثقافية للدولة.
وسنعمل في ما يلي على تناول تلك الخواص الجوهرية في تشكيل الدولة الحديثة، حتى نبين مدى تعارض هذه الأخيرة مع أي نموذج للحكم الإسلامي:

الطابع المتناقض لمفهوم «الدولة الإسلامية»

إن وصف «إسلامية» لا يمكن أن ينطبق على الدولة الحديثة لسبب بسيط هو أن هذه الأخيرة باعتبارها الشكل السائد للتنظيم السياسي نشأت في سياق تاريخي ومكاني خاص مرتبط بالظرف الأوروبي حوالي القرن 16 و17 بعد قرون مريرة من الصراعات المذهبية والطائفية وسيطرة الكنيسة على مفاصل المجتمع والحكم. وقد وفرت نظريات العقد الاجتماعي الأساس النظري للدولة الحديثة، بحيث أقامت مشروعية الحكم على أساس تعاقدي ووضعي عوضا عن مصادر المشروعية التقليدية التي كانت مهيمنة في العصور الوسطى (الحق الإلهي المطلق للحكام، القانون الطبيعي…).
أما في ما يختص بالسياق الإسلامي، وإلى غاية القرن 18 الذي عرف بداية الاصطدام بالإمبريالية الأوروبية، فلم يعرف على امتداد قرون طويلة أي مظهر للدولة الحديثة، إذ كان القانون الأخلاقي/السماوي للشريعة هو السائد والمنظم لشؤون المجتمع ومبادئه العليا. هذا قبل أن يفرغ الاستعمار الغربي قانون الشريعة الأخلاقي من مضمونه الفعلي حين أقدم على تفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة دون هوادة، مؤذنا ببداية احتكاك الأقطار الإسلامية بأشكال وهياكل الدولة الحديثة. ومن ثم، نخلص إلى أن الدولة الحديثة هي نتاج أوروبي خالص سرعان ما عملت الدول الأوروبية على تصديره إلى مستعمراتها في مختلف قارات العالم.

السيادة للأمة في مقابل سيادة الخالق

يعد مفهوم السيادة من أبرز خصائص الدولة الحديثة، ولئن عرفت أوروبا ظهور هذا المفهوم قبل زمن طويل، إذ كان يحيل منذ القرن 12 و13 إلى تأكيد سيادة الدولة على حساب تفوق الكنيسة وقوى الإقطاع بفضل آراء ثلة من المفكرين القانونيين (من أبرزهم مارسيل دو بادو ودو تراسي)، فإنه اصطبغ بطبيعة خاصة بالموازاة مع انبثاق الدولة الحديثة، سواء من حيث مصدر السيادة أو تجسيدها الفعلي.
إن مصدر السيادة في الدولة الحديثة هو الأمة/الشعب، وتبعا لذلك فإنها (السيادة) تتجسد في صورة القانون الوضعي الذي يسنه ممثلو الأمة المنتخبون من قبل الشعب. ومن نافلة القول أن المفهوم الحديث للسيادة يستمد جذوره النظرية من رواد الفكر السياسي الحديث ومن أبرزهم جان جاك روسو الذي تمادى في الحديث عن الإرادة/ السيادة الشعبية في مؤلفه « العقد الاجتماعي «. وعلى النقيض من ذلك، يقابل تعبير السيادة في نموذج الحكم الإسلامي الذي كان سائدا قبل الظاهرة الإمبريالية مفهوم آخر وهو الحاكمية، حيث السيادة تنبع من الله وتتجسد في قانون الشريعة الذي وضعه الخالق نفسه.
الذات السياسية كنقيض للذات الأخلاقية
بحسب المفكر الألماني كارل سميث (1888-1985) فإن الدولة الحديثة هي فضاء للصراع والعنف بامتياز، فالغاية الأسمى هي بقاء واستمرار الدولة بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية الأخرى، ومن ثم فإن النطاق المركزي لهذا الشكل الحديث في التنظيم السياسي هو الاقتصاد والسياسة، أما القضايا المتصلة بالأخلاق فلا تعدو كونها نطاقات ثانوية. وعطفا على ذلك، يوجد فصل في الدولة الحديثة بين القانون وما هو أخلاقي، فوظيفة القانون هي محاولة حل المشاكل الوضعية وليس خلق الحياة المثالية الفاضلة أو إدخال الناس إلى الجنة، ذلك أن ما هو أخلاقي يقتصر على ضمير ووجدان الفرد.
تأسيسا على ذلك، وبعد تشكل الدولة الحديثة على أنقاض الأشكال الأولية من التنظيم السياسي، وتمكنها من بسط سلطتها على مجمل إقليمها بفضل خاصية احتكار العنف المشروع وجهازها البيروقراطي، سرعان ما فطن حكامها إلى أن فرض السيادة من خلال استعمال وسائل الضبط والإكراه لوحدها (الشرطة، الجيش…) لا يعد كافيا، بل لا بد من مشروع مواز للهيمنة الثقافية على المجتمع والتوغل فيه رمزيا وأيديولوجيا، مما يصب في صالح خلق المواطن النموذجي المستعد للتضحية بنفسه في سبيل بقاء الدولة وتفوقها. ومن هنا، سيمثل إحداث المدارس والجامعات وإقرار التعليم النظامي الخطوة الأولى في مشروع الهيمنة الثقافية، إذ ستعكس المقررات التعليمية أيديولوجية الدولة الحديثة وأولوياتها وبرامجها.
وإذا كانت الدولة الحديثة معنية في المقام الأول بخلق ذات سياسية/قومية/مواطنة، فإن نموذج الحكم الإسلامي لا يعترف في المقابل إلا بالذات الأخلاقية المستوحاة من تعاليم الشريعة. ولكي يستدل مؤلف الكتاب على طرحه هذا، يؤكد بأن الإسلام لم يعرف قط في تاريخه مفهوم التجنيد الإجباري، بل حتى التضحية في سبيل الله والدين الإسلامي لم تكن ملزمة، فإذا كان الجهاد (بخاصة في حالة تعرض دار الإسلام لعدوان خارجي) فرضا دينيا يرتب مخالفته حسابا وعقابا أخرويا، فإنه لم يكن يولد في المقابل عقوبة دنيوية على عكس التجنيد الإلزامي في الدولة الحديثة. كما أن نموذج الحكم الإسلامي لم يعرف تعليما نظاميا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ كان تلقين الطلاب منفلتا عن سيطرة الحكام ويرتكز بالأساس على تعاليم الشريعة وبعض العلوم الطبيعية التي لا تمس في الجوهر التصور الإسلامي التقليدي عن الحياة الأخلاقية الفاضلة.

التحدي الاقتصادي والأخلاقي للعولمة

بما أن فرضية الكتاب الرئيسية تفيد بأن نموذج الحكم الإسلامي مستحيل التحقق في ظل رسوخ الدولة الحديثة، فإن تلك الفرضية تصبح أكثر وضوحا مع توغل نظام العولمة بأبعاده المختلفة التي تغطي كافة مجالات الحياة. وفي البداية، يرفض الكاتب الطرح التعميمي القائل بأن العولمة تعد نفيا لسلطة الدولة، فإذا كان هذا ينطبق على الدول الضعيفة بوجه خاص التي أمست فريسة بيد القوى العظمى والشركات المتعددة الجنسيات، وجب التنويه بأن العولمة هي قبل كل شيء مشروع هيمنة أرسته الدول القوية وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون بعد أفول نظام الثنائية القطبية الذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة.
إن نظام العولمة يفرض تحديات جمة على دعاة الحكم الإسلامي، ذلك أن خيار العزلة ومعاكسة التيار الجارف يبدو مكلفا للغاية لما يرتبه ذلك من حصار سياسي واقتصادي وعقوبات دولية خانقة. فالعولمة ببعدها الاقتصادي تحيل إلى تعميم النموذج الاقتصادي الرأسمالي القائم على منطق نفعي، إذ أن هاجسه الوحيد هو تحقيق الربح ومراكمة الثروة. أما الاقتصاد الإسلامي المرتكز على قواعد أخلاقية ومثل فاضلة فيصعب تصور إمكانية صموده أمام وحش العولمة الرأسمالية، دون إغفال التحدي الثقافي للعولمة المتمثل في إشاعة قيم الثقافة وأنماط العيش الغربية على نطاق واسع، بفضل ما تتيحه التقنيات الجديدة من ذيوع واسع لها يتجاوز حدود الدول القطرية، هذا على النقيض من الخصوصية الثقافية المزعومة للعالم الإسلامي.


الكاتب : صلاح الدين ياسين

  

بتاريخ : 26/11/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *