كمائن للتلصُّص

الثانية والربع ينقلب الجو في عز الصيف. يجلس الكاتب قريبا مني بعدما أزاح بقدمه كومة تيكيت ملابس من الورق المقوى كانت مرمية على أرضية الرصيف هاتفا من أعماقه: يا إلهي، كم أعشق هذه الأرضية الدافئة، كم أعشق التسكع في المدينة القديمة وأرصفتها. كان كل ما يجمعنا الرواية والقصص وإبريق شاي وحديث طويل نملأ به المساء، نجلس بالساعات عند رصيف الأشجار المقطوعة، المكان الذي نجد فيه كراتنا الضائعة، يوميا يتحول الشارع إلى سوق كبير يغرق فيه المارة، نسبة كبيرة منهم نساء، لا نستطيع أن نغض الطرف عن مشاهدة أطرافهن. وبما أنهن يشاركننا كل شيء، أحيانا يوسوس لي إبليس بترك الكاتب يداعب مفاتيح بيته بين أصابع يديه وأتمنى لو أشاركهن اقتحام الزحام في الممرات الضيقة والمنعرجات الخطيرة.
(ش.ع) كاتب قصير القامة، بوجه مُربَّع وشارب كثيف، ورأس مملوء بالتراث الشفوي والنكت والنقاش الحر والسخرية وأشياء أخرى لا أعرفها، لأنه ببساطة لايريد أن يحدثني عنها، ليس معنى هذا أنه مثقف أخرس من النوع الذي تسأله عن شيء فيسبِّق لك اللاء ليرتاح؛ لا أعرف، لا أدري، لا أعلم، بالطبع يمكن أن تعرف موهبته الساخرة بالنظر في وجهه المرح. عندما يطالعك بوجهه الآخر، الوجه الدراماتيكي البئيس، لا ترى أي شيء، سوى أنف لايشم شيئا بسبب الزكام والغبار والدخان والحساسية، حساسية ناقدة لتذوق الفن والفلسفة والكوميديا، أقول هذا إذا كنتُ قادرا على تحليل شخصيته بشكل جيد، لست فضوليا أفتش عمّا لايعنيني في الرجل، لكنني أريد فقط أن أفهم مع من أنا، أريد أن أعرف مع من أجلس. ماكان يعانيه الرجل دائما قبل أن يأخذ مكانه على الطوار هو جو الجديدة المتقلب صيفا، كأننا نعيش في جزيرة صخرية عارية وحيدة وسط البحر، تتجاذبها التيارات الهوائية المتناقضة وتتقاذفها ثنائيات الضباب والغبار، البرودة والصدأ، الملح والريح، الرطوبة والكوروندير، تكون مرتديا تيشورتا خفيفا مستمتعا بحرارة الشمس الطافحة ونعومة الظل حتى ينقلب الجو الى درجة الصفر في لحظة، يتحول الدفء إلى لعنة برد باردة، تتخدر ذراعاك من البرد وأنت تلبس قميصا عاري الذراعين لم تكن تحسب للتقلبات حسابا، يجمِّدك ولو كنت مُسخِّنا أجهزتك الداخلية بكؤوس رفيعة من النبيذ النقي، في هذا الجو لانستطيع أن نمارس هوايتنا في الحكي بتلقائية، فكل ما نفعله أننا نتسلى، نتحدث، نناقش، لانؤذي أشخاصا بنقاشنا، يمكننا مناقشة كل شيء، حتى الله، نناقش فيه ولا نؤذيه.
إنني لا أقدم نشرة أخبار الثامنة مساء، إنها مجرد بطاقة شخصية وسخيفة، مضطرا لأروي لقطات لايمكنني سحبها مستقبلا، فهو لايريد أن يتحمل معي عشرين درهما من الأضرار بسبب نكتة وأشياء شبيهة بمعلومات لعينة مرتبطة بشخصيتي العادية جدا بصفتي كاتبا يملأ فراغات الورق، لا يكتب عن السياسة، لايكتب عن الله، يخاف أن يسقط في أخطاء تجعل الناس يضحكون على الله لاعلاقة له بها. يمارس الركض، حياته كلها ما رأى الغولف ولا الفروسية ولا البيزبول ولا التزلج الجليدي، وبوسعه أن يشارك العالم قليلا من لحظاته على الفيسبوك.
الجميل أنك عندما تتحدث إلى مثقف لاتعتبر نفسك أمام آمر عسكري لا مجال لإبداء الرأي معه، عكس الذين لايؤمنون باختلاف الرأي كأنهم خُلقوا ليصدرون الأوامر فقط، الأوامر تشبه الأوثان، لاتستطيع أن تغيرها مهما حاولت، ليس أمامك إلا التنفيذ.
الرابعة عصرا، نستدعي القَهوجي الطَّوَّاف، في وقت قليل يحضر الإبريق، نضع كؤوس الشاي بيننا على الأرض، لا منضدة خشبية محترمة، لاهدوء، لا كراسي وثيرة تشعرك بالراحة النفسية، لاسيدي بوزكري، لسنا هنا في مقهى فندق. حتى وأنت تحاول أن تحافظ على هدوئك تستفزك جريمة الصوت المرتفع جدا للموسيقى المنبعثة من قيسارية النصر، أصوات غنائية مقززة يطلقونها لجلب الزبائن، كأنهم يتعاملون مع زبائن من الحجارة عبارة عن جمادات لا تقتني شيئا إلا بمكبرات الصوت. سبعة آلاف واط من الضجيج في الثانية، لأجل أن يثبتوا للزبون أن عندهم سلعا حقيقية مصنعة في أوربا واليابان وروسيا وكندا، وحقيقة الأمر تكتشفها بكل سهولة من أول متجر غارق بمنتجات عادية مجلوبة من قيسارية «الشينوا» الشهيرة. لا يمكن أن تصدق أكاذيبهم حتى ولو كنت مجرد حيوان لعين فكيف ستصدقهم وأنت بكامل قواك العقلية. لكن العقل القوي الذكي يمكن أن يكون حمارا غبيا غائبا عن الوعي تحت تأثير رغبات جسده المكبوت، تلك الرغبات التي تشبه أسلحة الناپالم الحارقة بشدة.
(ش.ع) يسمع ضجيج الموسيقى ويتذمر:
– مال هاد لمساخيط مصدعين العالم.
– سيد (ش)، كما تعلم هؤلاء لايهمهم أن يتبول العالم في سرواله حتى، المهم أن يأتي الزبائن فحسب.
نُقهقه. تمر فتاة طويلة وممتلئة ، نكبِّر ونصلي على النبي ونقهقه، يجدها الرجل فرصة ملائمة للتعليق على الجسد الممتلئ:
– الْعيد الْكبير هاد العام، كاين لْمليح، كاينة السمونية آبـَّامحمد. نقهقه.
بائع الطيور البلاستيكية والقِردة وفتيات القوة ولُعب الأطفال يحدق بقهقهاتنا وينسى أن يبني لطيوره البلاستيكية أعشاشها التي لا يمكن أن تبنيها بسبب فقدان أرواحها الميتة. المفروض أن يدخل سوق مُخّه ويغرس عيونه في فَرَّاشته الخاصة، عليه أن يغرس لقروده البلاستيكية أشجارا بلاستيكية مناسبة تقفز عليها وتأكل الموز المزيف. ربما كنا نبدو له كأناس عواطيل عن العمل يتمنون امرأة تحسن فن المداعبة وسيارة سياحية مُشِعًّة ومنزلا مطلا على شاطئ سيدي بوزيد نحظى فيه ببعض الوقت، ببعض الحياة الرائعة، نحظى فيه بطاولة من المشروبات التي تضبط الأدمغة، ( ستلاحظون أن أصحاب النوايا الحسنة سيتوهمون أنني أقصد المشروبات التي تُديخُ الرأس وتصعد بالأدمغة إلى السماوات)، وتمتلئ الطاولة بأطباق الأرانب المشوية العائمة في مرقها الأنثوي، أو مع أطباق الأسماك والمحار، وأطباق الطيور الناضجة باللحم. حسنا، فليتوهم فتى اللُّعب مايريد، فلم تكن لنا حاجة في هذه الأشياء. إننا نتواجد هنا نبني فخاخا لامرأة مجهولة، ليس معقولا كاتبان جائعان يمكن أن يعيشا فوق مستواهما الاجتماعي الحياةَ بطلاقة أرستقراطية. تستطيع طيور البقر الحزينة أن تبني فوقنا أعشاشا من البُزاق وهي تحلق قريبا من الشجر المقطوع، وحين تمر فوق رؤوسنا، تستطيع أن تلطخ بِساطة مفروشاتي بما تطلقه علينا أسلحتها الجوية، طائر أبيض لعين يشبه طائر الوطواط، لايوطوط بمنقاره، يتحدث بشكل جيد من مؤخرته فحسب، هذا النوع من الطيور هو كل ما نحظى بمشاهدته في الجديدة طول الوقت لسوء الحظ. أظن أنه يمكنني وصف الوضع بشكل عائلي جدا، فأنا لدي طفلة صغيرة في البيت تدعى هدية إذا لم تكن موجودة الآن في حاضنتها الكبيرة فهي تلعب خارجها، نحن أيضا سنواصل اللعب وفي نفس التوقيت، حتى لايصيبنا الاكتئاب، نحن نجلس هنا لأننا بحاجة إلى المرح، يستغرق الوضع وقتا جيدا لانتوقف فيه عن الضحك. هاهو سيد (ش) يحاول أن يجرني إلى القهقهة بصوت يشبه الفضيحة حتى نبدو للعالم أننا منسجمان ضاحكان لاعبان آكلان شاربان وكل شيء بخير وعلى خير:
– سي محمد، الآن، من الأفضل أن تلتفت، ستدوخ إذا نظرت إلى الأعلى، لاتحرك رأسك مباشرة، التفتْ بعينيك فقط، حركهما ببطء جانبيا إلى زاوية العين نحو الأسفل.
كان الرجل في قرارة نفسه يعرف أن النساء تجذبْننا نحو الأعلى، نحو الصدر الأعظم، بينما نحن نبحث عن الأسفل، أما لو صادفنا امرأة تلبس تنورة قصيرة وضيقة فإننا ننجذب مباشرة إلى ما خلف أسفل السافلين، ثم نبدأ الاكتشاف من الأسفل ونستمر في الصعود نحو منصات الجسد العليا حتى نستقر أخيرا بشُرفة الصدر المطلة على البحر وهناك نعشق النوم، الموت حتى.
يمد السيد (ش) يده إلى كوب الشاي لمرة أخيرة ويتجه بعينه إلى ذات عنق مكشوف ويبتسم كما هي عادته في إثارة انتباهي، يحاول أن أتابع التحديق.
هكذا كان الوقت في المساء ملائما لنحدِّق، لنسجل أهدافا دون أن نفكر في نظرات مراقبي الشرط، نسوق مراكبنا بسرعة جنونية دون أن نربط أحزمة الأمان.
كنت أستمر وحيدا إلى أن يأتي الرجل فيطلب مني قبل أن يجلس وبصوت بوليسي ساخر شَفْطَ فَرَّاشتي من الشارع:
– أنت تساهم في تدمير البلدية، أنت قاطع طريق وتحتل الملك العام. تخالف القانون، اجْمع هاد الشيّْ من الطريق وحيَّد علينا من هنا. يقول ذلك السيد (ش) بعينين غاضبتين قبل أن يضحك بصوت كفيل بأن يجعل دقات قلبي تنبض مئة وعشرين نبضة في الدقيقة، لأنه لا أحد يعرف درجة الخوف التي يزرعها رجال قوات البلدية المتوحشون وهم يستولون على أرزاقنا.
لا أتذكر أنني كنت أقول له «مرحبا» في كل مرة يهددني بالطرد من الرصيف مازحا، لاشيء مهم، سوى الكثير من الدردشة، يتشابك الحديث لوقت طويل، كما في مسرحية طويلة جدا لاتعتمد على تتبع خط زمني مضبوط، لانهتم للوقت، كان كل شيء يمضي بنا بشكل عفوي. نعرف نقطة البداية، نستمر في التحديق المُريب إلى أن نفقد طريق العودة، وعندما نصل إلى نقطة اللاعودة يجتزُّ السيد (ش) قطعة من فطيرة الْمُسمِّن أو يرتشف ما تبقى في كوبه من الشاي مُبديا تذمره من برد الصيف ويقول: إني كرهت الطقس، المكان غير مناسب لتنصيب الكمائن، يجب أن ننصب كمائننا في مكان آخر، سأنسحب. ثم يطوي فِخاخه وينسلّ.


الكاتب : محمد غزلي

  

بتاريخ : 22/10/2021