لؤم الكلمات

أمر عجيب أن ينظر الكاتب في الأرض باستمرار بحثا عن كلمة، الكلمة الدقيقة والضرورية، والأكثر إشباعا لما يريد قوله. (الكلمة الصغيرة/ تُقال/ أو تُخَطُّ/ فوق الماء/ تمشي بها الرياحُ/ وتبثها الرمالُ/ في الصحراء..)، كما يقول الشاعر أحمد المجاطي.
في كل كتابة تطمح إلى الاستثناء، البحث عن الكلمات مسألة جدية، ولا أهمية لأي شيء آخر. إذ لا مجال للتلاعب أو الترقيع أو «البريكولاج» كلما تعلق الأمر ببناء المعنى، ذلك أن الكاتب ليس مجرد جامع كلمات، يطمئن إليها وتطمئن إليه، قبل أن يلقيها في حوض الصهر الخاص به، ليمنحها حياة أخرى. كما لا يعني ذلك أن عليه تمضية سنوات للكدح خلف الكلمات الغريبة والعجيبة، وذات الإيقاع الفاتن أو الرنان. إنها ليست مهنة ذات مردود موثوق، وإذا تحولت إلى ذلك، فليست هناك أي ضمانة لإنجاز نص مفارق.
على أي حال، يظل الكاتب (وينبغي له) صديقا للكلمات، وصائدا لها، ومنغمسا حتى النخاع في حروفها وروائحها. ومن الخطأ أن نعتقد بأن الكلمة تتكئ على الكاتب بثقلها وتفسد عليه علاقته بالأشياء والمعاني. قد تكون الكلمة تائهة، منسية، محطمة، منبوذة، ضريرة، غائمة، بعيدة، مُغْبرَّة؛ وقد تعثر عليها بِشِقّ الأنفس، حين تتوثب من عصر إلى آخر، أو حين تجدها تلهث باندفاع وراء بريق ما، ربما بريق «اللؤم العمومي» أو إغراء الطرق الفرعية للترجمة وغيرها.
هناك من يضع كلمة بالية وكلمة جديدة في مستوى واحد، ويعتبرها كلها جزءا من العالم، أو على الأقل قطعة من المتلاشيات ما دام القاموس عرف طريقه إليها. غير أن طريقة الاستبضاع وكسب الكلمات تختلف من هذا الكاتب وذاك. فبينما يلجأ البعض إلى القاموس مثلما يفعل بورخيس: «أبذل أقصى ما في وسعي للرجوع إلى القاموس»، يقوم آخرون بصيد الكلمات من الأماكن التي يرتادونها بحثا عن «التمثيل اللغوي». ويغنم كتاب آخرون كلماتهم من الكتب أو الأفلام، فيدوّنونها في إضبارات مرتبة بعناية ليوظفوها لاحقا في نصوصهم. هؤلاء يتخطون كل الخطوط. يستبضعون دون حسيب ولا رقيب، وقد ينجرفون نحو سرقة النصوص، بدل «اقتراض الكلمات». القرار أخلاقي بالدرجة الأولى، ولهذا سيشعرون بالضيق إذا افتضح أمرهم.
ومهما يكن، فإن القاموس استأثر باهتمام الكتاب من كل اللغات. ذلك أن أومبرطو إيكو، على سبيل المثال، يعتبره نصا أساسيا تتقوى به الموسوعة التي لا تتوقف عن التقدم، خاصة أنها تشمل الفكر وفروعه، والسنن المعرفية، والتمثلات الثقافية، وكل المعارف التي ندرك عبرها الواقع ونؤوله. أما أناتول فرانس، فيرى أن «القاموس هو الكتاب بامتياز. جميع الكتب الأخرى موجودة هناك». وبالنسبة لرولان بارت، فإن «القاموس هو آلة الحلم».
هل معنى ذلك أننا نتبنى «أصالة» الكلمات؟ وهل يمكن الحديث عن «القاموس الخاص بكل كاتب»؟
ما من شك أن الكلمات لا تتشابه، ولن نخوض في إشكالية «اعتباطية الدليل اللغوي»، ولا في التداوليات وتحليل الخطاب، ولا في علم الأنساق، ولا في الصواتة، غير أن الكتاب كلهم يلاحقونها ويصادقونها ويعقدون أحلافا معها عسى أن تبذل لهم العطاء وتخلع عليهم عطفها. ولأنها لا تتشابه، فالقواميس الخاصة أيضا لا تتشابه، لأن الاختيار يقع خارج الصدفة، وإلا لم يهمل هذا الكاتب الكلمة التي قد تشرق في نصوص كاتب آخر؟ لماذا يتحيز لهذه وليس لتلك؟ لماذا يقتنص هذه الكلمة ويشطب عن الأخرى، بل قد يقرر إلغاءها وعدم استعمالها إلى غير رجعة، لأنها لا تعجبه، ولا تشبعه، أو لأن لها وقعا سيئا في نفسه؟
وتبعا لذلك، يمكننا الحديث دون تردد عن علاقة حب غير معلنة بين الكاتب وكلماته المختارة. كلمات تتكرر باستمرار. تطفو برأسها في كل النصوص، وتكاد تصرخ: «هذا حبيبي، وأنا حبيبته! « .
ليس غريبا أن نكتشف هذا»الإعجاب». فهو موجود لدى كل الكتاب تقريبا، غير أن الاستغراق في الاعتماد على كلمات بعينها قد يؤدي إلى الغرق. النصوص قد تغرق بكلماتها. تبتذل أولا، تفقد سحرها وسرها ويفتضح فقرها. تجف. تتشقق. تموت تدريجيا، وتهجر أخيرا، وينسى أمرها. ولا يرضي أي كاتب أن يترك كلماته يأكل بعضُها بعضا. لهذا يصبح توسيع القاموس أمرا ضروريا غير قابل للترك أو الإرجاء. وهذا التوسيع هو ما تجسده الموسوعة التي تعني هنا عدم تجاوز أي تفصيل بكل إحداثياته الشعورية واللاشعورية، والإدراكية أيضا.
وقد يلجأ الكاتب، أحيانا، إذا أعيته الحيلة، ولم يف الترادف أو الإيماء بالغرض، إلى النحت والاشتقاق والابتكار والاستحداث، من أجل التعبير عن معنى محدد لا وجود له في القاموس. هذا عمل اللغويين والمهتمين بتطوير المعاجم، لكنه أيضا عمل الكتاب المبدعين التي تجيش أرواحهم بما لا تستطيع القواميس التعبير عنه، أو أولئك الذين أدركوا أن اللغة قاسية، و»لا يفل الحديد إلا الحديد». ومعنى ذلك أن القاموس يجب أن «يتغذى على العالم الحقيقيّ»، كما قال اللغوي الفرنسي آلان ري، أي ألا نستغرق في تفسير الكلمات (الموجودة أصلا) بكلمات أخرى لانعرفها ونجهلها جينيالوجيا. وهذا ما يشير إليه أنطوان بلوندين بقوله: «مفارقة القاموس هي: لا يمكن تفسير الكلمات إلا بكلمات أخرى». ولذلك، فإن أفضل ما بوسع الكاتب أن يفعله هو أن يشكّ فيها، وأن يحذر من كل كلمة تنبسط له على طول الطريق، هاشَّةً ومُلَوِّحةً. ربما هناك بعض المبالغة في هذا الكلام، لكن من الخطأ القول بـ»صداقة الكلمات» ما دامت تقودنا إلى مأزق لا يمكن الإفلات منه: متاهة القاموس بوصفه حاضنا لممرّات تتقاطع وتتشابك، وتتدبر أمرها وتعدل تكتيكاتها لتجعلنا نضيع.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 22/04/2024