لـعـبـة التخفي في الـكـتـابـة الأدبـيـة

 

كثيرا ما كنتُ أثيرُ هذا السؤالَ، عند قراءة نصٍّ أدبيٍّ، أو كتابةِ قصةٍ، فأشعر بصعوبةٍ في ذلك :
ـ كيف يشرع الأديبُ في كتابةِ نصٍّ قصصي أو شعري أو روائي؟!..هل عندما تأتيهِ فكرةٌ ما من طفولته، مثلا، أم من لقاءٍ عابرٍ في يومِهِ، أم يتذكر لحظةً عاشَها، أم ينطلق من كلمةٍ خطَّها على الورقة، أم يُحسُّ بإلهام؟!..إلى غير ذلك من الأسئلةِ، التي كانتْ تُحَيِّرني وتؤرِّقني، ولا أعثر لها على رَدٍّ كافٍ وشافٍ !
إلى أنْ أدركتُ أنَّ بدايةَ الكتابةِ الحقيقيةِ، تحضر بغتةً، كمَنْ يُصيبُهُ العشقُ لأول وَهْـلةٍ، أو من النظرةِ الأولى، دون شعور أو تفكير منه، إذا كنتَ، فعلا، مَهْمومًا، أي تحمِل بين جوانحك هَمًّا، إما لحبيبتك، وإما لوطنك، أو لإنسانيتك، أو لمشكلةٍ اجتماعيةٍ تشغل وجْدانَك وكيانَك…!
والبدايةُ تحدِّد لك النهايةَ، مثلَ الرعد يُنْذِر بالمطر، لكنْ، عليك أنْ تعرف كيف تصل بيتَــك، قبل أنْ تــتــبلَّــلَ، لأنك إنْ أسرعتَ في السير، فقد تـتعثّر، أو تسقط، أو تعودَ أدراجَــك، فلا تقضي أمرا كان مفعولا!..لذا، ينبغي أنْ تعرف المسافةَ بين البداية والنهاية، لتعبُرَها بأمانٍ، سالمًا غانمًا نصًّا إبداعيًّا جــيِّــدًا !
والنص الأدبي، منذ بدايته، يتخلَّق عبر (السِّياق) أو من خلال التقليد (الواعي) وليس (الأعمى) . فالشاعر توماسْ إليوت، يُقِرَّ بأنه “لا يوجد أديبٌ لديه كل شيء” فلا بُــدَّ أنْ يستعيرَ من (جيرانه الأدباءِ) ما يُنَسِّم به طبقَه، عُذْرا، أعني نصَّه الأدبي . والكاتب المغربي عبد الكريم غلاب، يعترف أنه “إذا لم يقرأ، فإنه لن يكتب” أي أنَّ القراءةَ تُـلْهِم الكتابةَ، بما تتضمنه من أفكارٍ وآراءٍ ومواقفَ ورؤى، توقظ (موقفا) كان مركونا في إحدى زوايا الذاكرة، أو تسترجع )لحظةً) من اللحظات الغائبة المنسية في حياتك، ولا أعني بذلك أنك تكرر ما يكتبه الآخرون “هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا” إنما تستلهم بـــ(اللاشعــــور واللاوعـــي) لحـــظـةً، أو مـوقــــفًـــا ما، يُـــضــاهــــيــان ما قـــرأته، ليصبحَ أحدُهُــما بدايةَ نــصك الأدبي…! ولتقريب المعنى المتوخَّى، نستحضر، تعسُّفا، ما يطلقون عليه “التناص” وهو، باختصار شديد، إزاحة النص الأدبي الأصلي إلى نص آخرَ، وهذا، أيضا، يُزيح نصا آخرَ، وهكذا دواليك…أي لا يوجد نــص نــقــي وبريء، جــرى به الــنهــرُ من تــلــقــاء نــفــسه، ما يسمــيــه الكاتب والناقد الفرنسي رولان بارث بـ”نسيج جديدٍ من الماضي” وإنْ كان يُلْغي هذا الرأيَ في مقالِ آخرَ عن (الحداثة) !
وينبغي، في هذه النقطة بالذات، أنْ نفرِّق بين التَّناص والتَّلاص، إذا جاز التعبيرُ، فأنا أقصد الأولَ فقط، كيلا يُساءَ فَهْمي..و(ليُبلِّغ الشَّاهدُ الشَّاردَ) !
بعض النقاد الجدد، الذين أطلُّوا علينا في حقبة (الحداثة) عَــدُّوا النصَّ الأدبي مستقلا بنفسِهِ، ومكتفيا بذاته، لا علاقة له بالذوات الأخرى، كأنه (سقط من السماء) لا أصل له . وبذلك، عرفتْ تقنيةُ كتابتِهِ (الفوضى الخلاقةَ) التي تُراكم كلَّ الأحداث والمواقف والصور والشخصيات، دون خيطٍ يجمعها، إلا ما يستطيعُهُ القارئُ . لكنَّ (ما بعد الحداثة) ستحاول ترميمَ ما خرَّبتْهُ أُخــتُــها (الحداثةُ) فتمد الجسورَ بين النص الجديد والنصوص الماضية، سواء التاريخية أو الأسطورية أو الدينية…أو ما أفرزتْهُ قرائحُ الأدباء . على سبيل المثال، تأثُّر أبي العلاء المعري بالقرآن في ((رسالة الغفران)) وتأثُّر الشاعر الإيطالي دانتي أليـيغيري بالمعري في ((الكوميديا الإلهية)) ..أمَّا (أسطورة ســيــزيــف) فلا أظنُّ أنَّ هناك أديبا لم يتــأثَّــرْ بها، وإنْ لم يقتبسْ منها، بـــدْءًا من ألبـير كامي في روايته التي كتبها بـ(بوردو) سنة 1942..كذلك (شهرزاد) من “ألف ليلة وليلة” في كتابات الراحلة فاطمة المرنيسي عن المرأة المغربية، وسواها مِمَّنْ أدْركتْه حِرفةُ الأدب…!
إذن، نحن، الآن، نوجد أمام لعبةٍ أدبيةٍ، يمكننا أنْ نسمِّيها بـ(الــتَّـخَــفِّي أو التَّنَكُّر) فعلينا أنْ نـــفُـــكَّ لـــغـــزَ العلاقة بين النص الأدبي والكاتب والسارد والشخصيات، ودور القارئ أو المتلقي في هذه اللعبة، إنْ كانتْ خاصةً بالرواية !
قبل كلِّ شيءٍ، يتبادر السؤالُ : من يقود اللعبةَ؟..عــفــوا : أقصد من يسرد؟..فالسارد، غالبا ما يكون مخفيا أو متنكِّرا، حتى لو ظهر لنا بـضمير المتكلم!..إذ نُردِّد في نفوسنا : من يكون وراءَ (أنا)؟!..
إنَّ الكاتبَ، ولو كان يعرض نفسَه، فهو (شبح) لكننا نقيم معه صداقةً، إذا أقنعنا وأمتعنا بموضوعه الجديد، وبطريقته المـتـقـنة في السرد، وإذا أبدع في نصه الأدبي، فاتَّــكَــأ، مثلا، على العجائبي والغرائبي اللذين يُحيلانه إلى الواقع، وكذلك، إذا أتقن حياكةَ حبل (التواصل) معنا، فكريا ووجدانيا ولغويا…!
لماذا أقول إنه (شبح)؟!..أليس أفضل من (موت الكاتب)؟! ..وإنْ كانا معًا لا يظهر لهما أثَــرٌ، إلا عند حفل التوقيع!..وبطبيعة الحال، لا تشير مقولةُ (الموت) إلى الوفاة الجسدية، لأن الكاتب، وإنْ كان حاضرا، فهو غائب عن النص، أي تنتفي سلطتُه، فيصبح القارئُ هو الكاتبُ، فعلا، ويصبح حُكْمُه على النص هو السلطةُ القائمةُ!..ولذلك يقرر رولان بارث أنَّ (وفاةَ الكاتب) تتزامن مع (ولادة القارئ)!..فبعد أنْ كان الأول خالقا لعالمه وشخصياته الورقية، أو الرقمية، يسيرها الوِجْهةَ التي يريدُها، بالرغم عن إرادتِها، فيحِنُّ أو يقسو عليها، ويسجنُها أو يُحرِّرها، ويُحْيــيها أو يعــدِمُها، ويُغْــنــيها أو يُفــقــرُها، أي يستعرض عضلاتِه، ويُمارس سلطتَهُ عليها، وهي في حالة ضعفها، لا تـقدر على معارضته..يتولى المتلقي، بقراءته الواعية، تعديلَ العالم وتسويةَ الشخصيات معًا أو إعطاءَهُما وَضْعًا آخرَ، أرقى أو أحَطَّ، على قَدْر فَهْمِهِ واستيعابه للنص !
ويساير هذا الرأيَ، بشكلٍ آخرَ، الروائي جوستاف فلوبير، عندما يرى الكتابةَ الأدبيةَ “غيرَ ذاتيةٍ” يُبْعِد فيها الأديبُ كلَّ ما له علاقة بذاته من عواطفَ وأحاسيسَ وأفكارٍ وآراءٍ!..ففي رسائلِهِ المتبادلةِ مع القاصَّةِ (جورج ساند) يكتب لها عن روايته الذائعةِ الصّيتِ “مدام بوفاري” ما يعني إنَّ كل ما يرد فيها من قضايا وشخصيات، لا صلةَ له بنفسه . وهذا ما ينبغي أنْ ينهجَهُ كلُّ كاتبٍ، لأنه لا يكتبُ لنفسِهِ، إنما للمتلقي . بل يذهبُ بعيدًا، لَمَّا يجعل الكاتبُ القراءَ “يظنون أنه لم يعشْ قط” !
اللعبة، بناءً على ما تَــقَــدَّم، تـنجلي شيئا فشيئا، فالنص، ليس كلماتٍ وجملا وفقراتٍ منسقةً، إنَّما هو فضاء متعدد الأبعاد، تحيل على كثير من الكتابات السابقة، ونسيجٌ من الاقـتـباسات المـنــتــقـاةِ بدقةٍ، سواءً كانتْ أصليةً، أو فرعيةً، أو ممتزجةً، أو متضاربةً… فبمجرد إزاحة الكاتب جانبا، أو (وفاته) بلغةٍ أخرى، يصبح النصُّ قابلا لــتـوزيع ممتــلكاته وثرواته الفكرية واللغوية والأسلوبية، كما يشاء المالكُ الجديدُ أو الوارثُ الشرعي (القارئُ) !
غير أنْ ميشيل فوكو، يصقل فكرةَ (موت الكاتب) ليُجْلِيَ بُعْدَها الحقيقي، فيرى أنَّ الكاتبَ، كما بارث، لا يمتلك السلطةَ الفعليةَ، ولا حتى القداسةَ، لأنَّ ما يطرحُهُ في النص محدود بالزمان والمكان، لا يتعدَّاهما . وأنَّ كلَّ ما يُبَشِّر به، غيرُ ثابتٍ وقارٍّ، يختلف عبر الزمن، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، ومن خطاب إلى آخرَ. لكنَّ القارئ اليقظ، في نظري، هو الذي يفتح الحدودَ، ويُحَطِّم السُّدودَ، ليمنحَ النصَّ الأدبي نـفَــسا جــديــدا، ربَّما مغــايــرا، بقراءته العميقة والواعــية…!
إذنْ، نلحظ أنَّ الناقديْن الراحليْن الآنِفَي الذِّكْر، لا يعــتــبــرانِ الكاتبَ، خالقا للنصِّ، أو له وُجودٍ ظاهرٍ فيه، فهو مثل (ناقل الجنين إلى الرَّحِم) لا أكثر . أي أنَّ الجنينَ لا يعكسُ صفاتِ ناقلِهِ، وهذا خطأ في نظري، لأنَّ النص يتشكَّل من عالم الكاتب، فكرا ولغةً وأسلوبا…ولو فرضنا أنَّهُ أراد أنْ يبقى مُحايدا، فإنه لن يستطيع، لأنَّ (اللاوعي) يشتغل بطريقةٍ خفيَّةٍ، مثلَ خلايا البويضة تماما، التي إنْ لم تحملْ كلَّ خصائص صاحبها، فإنها تحمل بعضَها، ولو بنسبةٍ قليلةٍ جدًّا !
وفي هذه النقطة، نقرأ لـ(جاك دريدا) رأيا موافِـــقا لهما، فيرى أنَّ الكاتبَ “ميِّتٌ منذ البداية” و”بقدْر ما يحتويه نصُّه من مقوماتٍ تُــبْــقــيهِ على قــيْــد الحياة” وأنَّ “الكاتبَ يُتوَفَّى، فيما يبقى النَّصُّ حيا” !
ولعلَّ السؤالَ الذي نطرحُهُ : ما الجدوى من مناقشة موتِ الكاتب من عدمِهِ؟!
تــأتــي الإجــابةُ، لــتــؤكــد على حــقــيـقـةٍ، وهي أنَّ النص الأدبي (الجــيــد) هــو الــذي لا يظهــر فــيه الكاتــبُ، أي (الــمــتــفــرِّد) الــذي يُبْهِرُنا بعالمه غير المألوفِ، ويعجز كاتبٌ آخرُ عن تأليفِهِ . فإنْ حاولْنا أنْ نــقــرأَ النصَّ بتأنٍّ وتريُّثٍ، ونحن نرتكز على كاتـبِهِ فقط، في كلِّ ما يبسُطُهُ من عَــوالِــمَ، فسيــفــقــد ذلك الزَّخَمَ الذي يرشَحُ به، وتلك الهالَةَ التي تَحُفُّهُ، أو ستتضاءل تلك العوالمُ التي شَكَّلَها ليُحَقِّــقَ لنا مُتْعةَ النصِّ ولَذَّتَه !


الكاتب : العربي بنجلون

  

بتاريخ : 22/01/2021