لقاء مع الذكريات: حوار مع إدغار موران 3/2

– كريستان ديكامب:في الستينيات،أجريتم بحوثا ميدانية في بلدة بلوزيفي،حيث نقف على دخول الحداثة إلى إحدى بلدات بيغودن. فهمتم آنذاك براعة الناس الذين يمتهنون في الغالب مهناً متعددة من أجل الاستمرار في الحياة إبان اندثار الصناعات التقليدية البسيطة.

+ إدغار موران:إننا ندرك بوضوح أن إتقان مهن متعددة هو شكل من أشكال مواجهة تدفق اقتصادي تصعب مقاومته،وهو ما أعرض عنه العديد من الباحثين.لقد شاركت في بحث متعدد التخصصات،لكن برامج البحث التقليدية كانت تحجب عنا أمورا مهمة:أن النساء المهتمات بالنظافة والصحة لعبن دورا رئيسيا،خاصة على مستوى تطور الإيقاعات والعادات.من ناحية أخرى كان هناك ضعف اهتمام بالشباب.إلا أن بذور 1968(أحداث مايو 68)يمكن الوقوف عليها في هذا المكان مثلما هو الأمر عليه في المراكز الحضرية.لذلك،ظلت العلاقة بين الشباب والراشدين خفية.لقد انصب عملي على محاولة إجراء بحث حول هذا البلد الذي قضيت فيه أكثر من عام،بعيدا عن الخطاطات الجاهزة قدر المستطاع.كنت ألاحظ مثلا وجود صيدليين اثنين،وبقالين،وطبيبين:عندما كسبنا ثقة المبحوثين،علمنا أن الواحد منهما خاص بالحمر والثاني بالبيض.فقد ظل المجتمع محافظا على هذه القطيعة التي تطبعه.

– كريستيان ديكامب:في هذه المرحلة كنتم قريبين جدا من كاستورياديس.

+ إدغار موران:لقد سلكنا نفس الطريق في”الميتا- ماركسية .كنت أرغب في تجاوز ماركس مع إدماجه واحتوائه.وما كان يقربني أيضا من كاستورياديس هو كونه يمنح المتخيل مكانة مركزية.عندما كتبت”الإنسان والموت“(1951)،اكتشفت أمرا في غاية الأهمية:كنت أعتقد بداية أن الحتميات ذات أساس اجتماعي واكتشفت الدور الهائل الذي يلعبه المتخيل.النقطة الثانية المشتركة بيننا هي فكرة الإبداعية.

– كريستيان ديكامب:الإبداعية ليست مجرد تطوير لأشياء معطاة سلفا،وإنما هي خلق أصيل وجذري.نلمس حضورا لهذه الموضوعة في أفكاركم حول التنظيم الذاتي.

+ إدغار موران:في تلك المرحلة المسماة بنيوية،حيث لا أحد يقبل الحديث عن الذات،عن التاريخ،كنا مغايرين ومخالفين جدا.لكننا حافظنا دوما على مواقفنا.فقد كان كاستورياديس محللا نفسيا،وذا توجه اقتصادي أكثر مني.لم نكن نستخدم نفس المصطلحات،نفس المعجم.وفيما يخصني،كنت أفضل مفهوم التنظيم-الاقتصادي-الذاتي.

– كريستيان ديكامب:رؤيتكم للعلوم تأخذ في الاعتبار أزمة الأسس.والواقع أن العلوم المعاصرة تخترقها قضايا وأسئلة فلسفية.

+ إدغار موران:بالفعل،هناك أزمات أسس الكون،والمجتمع والمعرفة مترابطة فيما بينها ويجب علينا التفاعل مع خصوبة وثراء هذا التركيب أو التعقيد.

– كريستيان ديكامب:كنتم،أنتم المعجبون بهيراقليطس Héraclite،تفضلون اتباع طريقة قادرة على احتواء واستيعاب التناقضات.

+ إدغار موران:يفرض علينا التاريخ أن نجمع بين ماركس وشكسبير Shakespeare.فالغطرسة لا تظهر فقط في سلوكات مجانين العظمة،وإنما هي التي دفعت مجتمعنا الغربي نحو القوة العظمى الشاملة والمفرطة.لا يمكننا إقامة تعارض بين الجنون والعقل؛هناك تداخلات بينهما يصعب تصديقها.لقد كشفت مدرسة فرانكفورت بما فيه الكفاية عن أوهام العقلنة.لذلك يبدو لي أنه من المهم جدا الجمع بين أفكار تبدو متعارضة.فالإنسان العاقل Homo sapiens هو في نفس الوقت الإنسان المجنون Homo démens.ولعله من المهام الأساسية للفكر،الكشف عن إمكانية التكامل بين أفكار متعارضة.لقد ورثت هذا عن هيغل Hegel،لكن بعد تعديله.إننا نتغذى ونعيش على المتناقضات التي لا تقبل التجاوز دائما بواسطة الجدل.ورثت هذا عن باسكال Pascal أيضا،ذلك الأنتربولوجي الوحيد الذي أدرك أن ما هو إنساني هو نسيج من التناقضات.نجد حضورا لهذا في الأدب كذلك.

– تيفين ساموايو:غالبا ما يستخدم مفهوم التركيب الذي قمتم بصياغته نظريا،في مجال الدراسات الأدبية.هل تفترضون صلاحيته في مجالات أخرى؟

+ إدغار موران:الرواية مركّبة،والأدب مركّب،لذلك يمكن أن يكون المتخصصون فيهما في حاجة لهذا المفهوم.إلا أنه بالنظر إلى أن ما يميز التخصصات المعرفية هو الفصل بين الخيوط التي تربط بعضها ببعض،فإن التركيب يظل في الغالب محجوبا عنا،باستثناء علم مثل الإيكولوجيا الذي يدرك أنه لا يتقدم إلا بمعية العلوم الأخرى.وغني عن البيان أنه لهذا السبب لم يجد له موطئ قدم بعدُ في رحاب الجامعة.

– تيفين ساموايو:من المؤسف أن نرى إلى أي حد ظلت الجامعة سجينة الفصل بين التخصصات.ففي نفس الوقت نجد أن لمؤلفاتكم وقع اجتماعي وثقافي كبير،لكن الجامعة تنآى عن مشاركتها.

+ إدغار موران:الجامعة الحديثة لم تر النور إلا بعد كارثة الثورة الفرنسية و(عصر)الأنوار.فقد عمل هومبولدت Humboldt في بروسيا على إزاحة وإقصاء اللاهوت وإنشاء التخصصات.والنموذج الحالي هو نموذج مصطنع،شأنه في ذلك شأن اللاهوت.ونحن نحتاج إلى ثورة ذهنية كحد أدنى لتغييره.هناك إدارة يزداد ثقلها باستمرار.في أواخر حياته،انصرف رولان بارث Roland Barthes عن السيميولوجيا المجردة متوجها نحو الأدب المشخص،نحو لذة النص.ولعل الرواية هي الأكثر تركيبا.وكما أوضح ذلك ميلان كونديرا Milan Kundera،فالأدب هو المرصد الوحيد الذي يسمح بمعاينة الوضع البشري في مختلف مظاهره.عندما أكتب،وحتى عندما كتبت مؤلف المنهج،فأنا ألعب بالكلمات،أشعر أني كاتب.

– كريستيان ديكامب:إن الطلاق بين العلوم والفلسفة لم يحدث إلا في وقت متأخر.والواقع أن كبار الفلاسفة جميعهم،كانت لهم ثقافة علمية حقيقية،وذلك إلى حدود إدموند هوسرل Edmund Husserl على الأقل.والعديد من الفيزيائيين المعاصرين يجهلون أعمال غاليلي Galilée،وكم من فيلسوف لا يعرف أي شيء عن علم عصره.

+ إدغار موران:نشهد اليوم تفقيرا في مجال الثقافة العلمية والإنسانيات humanités.وجاك مونو Jacques Monod وفرانسوا جاكوب François Jacob يشكلان استثناء.إنه من الجوهري أن نحافظ على مبدإ الانعكاسية(انعكاس المعارف على بعضها البعض).لنأخذ مثلا كارل بوبر Popper،باشلار Bachelard،توماس كون T.Kuhn،هولتون Holton …لا يفكر العلماء كثيرا في هؤلاء الذين يفكرون في العلم.أنا لست ضد التخصص؛وإذا كنت أصف نفسي بأني عابر للتخصصات،فلأنني بالفعل،في حاجة إلى تخصصات،لكنها تخصصات تتواصل فيما بينها لمعالجة القضايا الكبرى.وإذا كان الأمر خلاف ذلك،فلن نحصل سوى على علاقات بين خبراء:فهؤلاء يسجنون أنفسهم في الغالب،في حدودهم المكتبية-التقنية bureautico-technique ..


الكاتب : ترجمة: أحمد رباص

  

بتاريخ : 07/06/2021