لقد أصبح النقد السينمائي مهنة من لا مهنة له

 

الناقد السينمائي العربي يتهم ولا يهادن، يهاجم ولا يدافع، هذا هو المشترك بين كتب النقد السينمائي التي قادتني إلى الطريق المسدود، أي هذا الطريق الهايدغري الذي يشير إلى الوجود، ولكنه يتيه في الزمان، ونظرا لعدم وجود جدل بين النقد والسينما وبين النقد والفلسفة سأكتفي بنقل صراع الآراء وبعض الدلالات الفاقدة للرؤية العميقة، كما سبق تحديدها فلسفيا، حيث تحولت إلى سخرية وتهكم، لكن هذا لا يمنع من التنويه بتلك الأعمال الجادة سواء في الترجمة أو الكتابة النقدية، لأن مهمتنا ليست نشر العدمية، بقدر ما انها تريد الهدم مع البناء، طالما أن الفن السينمائي يحتاج إلى من يحميه ولو كان ذلك عن طريق النقد الإستيطيقي، ولذلك نجد أن أغلب نقاد السينما عندنا أساتذة الفلسفة، فالفلسفة تحمي السينما من الانهيار.
يقول روسوليني «المفروض في المرء عندما يتهم أن يهاجم، ويهاجم بحيوية حقيقية، والإتهام لا يكون حقيقيا إلا متى أدرك المرء أن شيئا ما في الحياة يجري خطأ، ومتى كان على استعداد للوقوف والنضال في سبيل تصحيح كل ما هو خاطىء «. وبما ان تصحيح الخطأ هو جوهر كتاب تأملات ميتافيزيقية لديكارت، فإن روسوليني يلقي بالسينما في مملكة الميتافيزيقا، ربما لأنه كان ديكارتيا يعتز بالكوجيطو؛ أنا أفكر إذن أنا موجود، أو قد يكون هيجيليا يبحث عن عقل السينما في الميتافيزيقا والفن المطلق في التاريخ، بيد أن ما يهمنا ليس معرفة الأصل الفني لروسوليني، بقدر ما اننا سنحتاج هذا الموقف، من أجل مقارنته بمواقف صناع السينما في العالم العربي، لأنه باستثناء بعض الأسماء المشار إليها بالجوهر والتي جاءت من الفلسفة إلى السينما، نكاد نجزم بان ما ينقص فن السينما هو فن التأملات الميتافيزيقية، وليس هناك من تعميم لهذا الحكم على النقاد والمخرجين، وبخاصة وأن سؤال الذات ككوجيطو قد تم نسيانه بشكل مطلق، ولم يعد يهيمن على رؤية النقاد للسينما، ولذلك تحولوا إلى نقاد للأفلام والمهرجانات، فكيف يمكن أن نفهم عبارة نسيان الفلسفة في السينما العربية؟، وأين يبدو تأثير هذا النسيان ؟، هل على استيطيقا الصورة؟، أم على نظرية النقد السينمائي؟.
السينما في نشأتها المأساوية لم تجد مدرسة نقدية تدعمها، ولذلك ظلت غارقة في النمطية والثرثرة، تكرر نفس الأخطاء إلى درجة انها تحولت إلى لعبة بين الواقعية السطحية والتسلية المملة، وينسى أصحاب هذا التوجه بأن السينما لا تكون واقعية إلا عندما تخلصنا من الواقع المشار إليه، ولا تصبح كوميدية إلا عندما تدير ظهرها للمحاكاة الميكانيكية، أي تتحكم في الرؤية العميقة للفنان، فنظرة السينمائي إلى العالم ينبغي أن تكون خاضعة لعلم الجمال وميتافيزيقا الفن التي جعلت من الفنانين سطحيين من شدة عمقهم. هكذا دخلوا إلى الفن واختاروا الإقامة فيه.
فالفنان هو من يحب الفن أي يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها الفن، إنه يظهر في ضوء الفن إلى حد اثارة الدهشة، والدهشة أصل الفن والفلسفة، ولا تظهر إلا في تلك الشعوب المتعافية من سموم الخرافة والشعوذة «. إن الفلسفة لخطيرة جدا حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب، ولكن ليس مطلق الشعب ». بمعنى ذلك الشعب المؤهل فكريا للفن والفلسفة.
من المؤكد أن ينبوع الفن لا يمكن ان ينفجر إذا لم يسبقه ينبوع الفلسفة، أما إذا كان التدين الشعبي هو المهيمن، فإن الخرافة تأخذ مكان الفن والأسطورة مكان الفلسفة، ولذلك يقول نيتشيه «إن لدى الشعب الإغريقي حكماء، في حين أن لدى شعوب أخرى قديسين»، فكيف يمكن للفنان أن يتفلسف في مجتمع فقهاء الظلام؟، وكيف يستطيع أن يتسلح بالابتهاج الغامر في غياب السعادة؟، بل كيف يستطيع فن السينما أن يفكر في وجوده حتى ولو كان مجنونا؟.
ثمة رغبة ملحة في عرض صراع النقاد فيما بينهم، مما جعلهم ينسون السينما كأفلام، ولذلك جاءت كتبهم بصراع الآراء التي تفتقد إلى الثقافة السينمائية وعمقها النظري، بالإضافة إلى افتقارها إلى الجدل الفلسفي، فهي عبارة عن خصام بين النقاد، قبل أن يكون خصام الشيء مع ذاته. هكذا وجدنا صعوبة كبيرة في التمييز بين ما كتب عن السينما العربية، وما ترجم من مؤلفات عالمية، يقول مترجم كتاب معالم النقد السينمائي من الانجليزية إلى العربية: «وأصبح معظم ما يطالعنا من الكتابات السينمائية النقدية أقرب إلى تصفية الحسابات الشخصية أو الانطباعات الذاتية في أحسن الأحوال».
ولذلك نجد المترجم يعلن عن استيائه العميق من مهزلة النقد السينمائي العربي، والسعي إلى لعب دور المنقذ من الضلال قائلا «قد يتساءل البعض عن السبب الذي يجعلني أبحث وأقرأ وأترجم لبعض الدراسات التي كتبت بالانجليزية عن النقد السينمائي، ماذا نفعل ونحن نرى أمر النقد عندنا ازداد سوءا، بل أصبح النقد السينمائي مهنة من لا مهنة له» .
لم يتردد هذا الكتاب في ذكر هؤلاء النقاد بالاسم، كما انه يتهمهم بالقصور الفكري، وانعدام العمق المعرفي، فهم عندما يمارسون مهنة النقد السينمائي، يتقمصون شخصية الناقد الأدبي، فالسينما، في نظرهم لا تختلف عن الأدب، ولذلك فإن «المتأمل لتاريخ السينما العربية يجد ان التقدم الذي واكب الفن السينمائي خاصة من الناحية التقنية لم يواكبه تقدم مماثل في شكل النقد السينمائي، ونجد أن ما كان يكتب في النقد السينمائي من حوالي خمسين سنة لا يختلف عما نقرؤه الآن». فما هو يا ترى الدافع الحقيقي وراء هذا الهجوم العنيف على نقاد السينما العربية؟، وما الغاية من استعراضه في هذا المدخل ؟، الا يكون صراع الأفكار انعكاسا لصراع الإيديولوجيات؟، ألا تكون الثقافة السينمائية الرجعية هي نفسها ثقافة الكهنوت بلغة لينين؟، وبعبارة أوضح ألم يكن غياب الفلسفة وراء غياب الرؤية العميقة وظهور مهزلة النقد ونقد النقد؟.
الملاحظ أن الناقد النمطي ينتقد تلك الأخطاء التي سيرتكبها هو نفسه، إذ يتهم الكتب المتواضعة بأنها أشبه بكتب تعليم القراءة والكتابة حيث يقول «مثل كتاب احمد بدرخان عن فن السينما، وكتاب مصطفى حسين عن الفيلم، وكتاب محمد كامل جمعة والذي لا أتذكر عنوانه، فقد كانت لدي نسخة واحدة أخذها مني الصديق سمير فريد ولم يعدها لي». لعل هذا الرجل إما أنه مجنون، وإما انه أن يعجل بجنوننا، لم أندهش في حياتي مثلما اندهشت أمام ناقد بالاسم ينتقد كتابا ولا يتذكر عنوانه، ويتذكر بأنه أعاره لصديقه ولم يعده، بمعنى أنه سرقه، وهي تهمة موجهة للناقد سمير فريد.
على كل حال هذا هو مجال النقد السينمائي العربي الذي لم يتجاوز بعد مرحلة الخصومات الشخصية، ظل يكرر نفس الخطأ الذي سقطت فيه الثقافة العربية بشكل عام حيث النقد تحول إلى حرب طائفية. فتاريخ النقد السينمائي العربي هو تاريخ أخطائه، والشاهد على ذلك هذا الكتاب الذي يحتفل بالأخطاء.


الكاتب : د. عزيز الحدادي

  

بتاريخ : 30/01/2021