لماذا لا نذهب إلى أفغانستان؟

ترتبط أفغانسان في ذهن الكثيرين بالجبال الوعرة وغياب البحر وقساوة العيش وحركة طالبان والغزو السوفيتي ثم الأمريكي والحرب والجهل والموت والدم ورائحة البارود والانفجارات التي تدمر المنازل والأحلام، والمخدرات والأفيون وحشيش جلال أباد معقل الحركات الإسلامية المتطرفة.
ولا أحد، أو لا أحد تقريبا يهتم بأفغانستان الأخرى: أفغانستان الورد والحب والأدب، شعرا ورواية، أفغانستان الوردة الدمشقية وعطر الغولاب الأغلى ثمنا في جميع بقاع الأرض ( 16 ألف أورو للكيلوغرام الواحد). فوق أرض أفغانستان، تتنافس المخدرات والورود، البشاعة والجمال، الحرب والسلم، رائحة البارود وعطر الغولاب، الرصاص والأدب، التهجير والاستقرار، التوطين والمنفى. وإجمالا، فلكل واحد أفغانستانه.
وأفغانستان التي يدعو عنوان هذا المنشور للذهاب إليها هي تحديدا أفغانستان الأدب والجمال والسلم والعطر والتسامح. وهذا ما أومأت إلى شيء منه قصة الكاتبة سبوجماي زرياب: السلم، التي سبق أن ترجمها كاتب هذه السطور إلى اللغة العربية. ومعلوم أن سبوجماي زرياب من ألمع كتاب الرواية الأفغان.
وقد يمكن التعرف على الأدب الأفغاني من بعض النماذج:

1 – عداء الطائرة الورقية

عداء الطائرة الورقية The Kite Runner باكورة الروائي الأمريكي من أصل أفغاني خالد حسيني، وهو كاتب وطبيب أفغاني الأصل أمريكي الجنسية ولد في 4 مارس 1965 في العاصمة كابول. ومدار هذه الرواية قصة الفتى أمير من حي وزير أكبر خان في كابل وصديقه المقرب حسان، خادم والده الهزاري. تقع أحداث القصة على خلفية أحداث مضطربة من سقوط النظام الملكي في أفغانستان، مروراً بالتدخل العسكري السوفييتي، فنزوح اللاجئين إلى باكستان والولايات المتحدة ومن ثم صعود نظام طالبان.
يصف خالد حسيني الرواية بأنها قصة عن العلاقة بين الأب والابن، مشدّداً على الجوانب الأسرية، وهو عنصر واظب على استخدامه في أعماله اللاحقة. وتبرز في الرواية عقدة الذنب ومحاولة التكفير عنها مع ظهور مشهد يتعرض فيه حسن للاعتداء وفشل أمير في الدفاع عن صديقه. وتركز في قسمها الثاني على محاولة أمير التكفير عن ذنبه، إذ يحاول إنقاذ نجل صديقه بعد مرور عقدين من الزمان.
وقد صارت هذه الرواية من أكثر الكتب مبيعاً بعد نشرها ونالت شعبية في نوادي الكتب. وتصدّرت قائمة النيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً لأكثر من عامين، اذ بيع منها أكثر من سبعة ملايين نسخة في الولايات المتحدة فقط، و22 مليون نسخة في جميع نقط البيع فوق الأرض. وقد تلقاها النقد بصورة إيجابية عموما. وعلى الرغم من ذلك، أثارت بعض أجزاءها جدلاً في أفغانستان، مثلما أثارت رؤيتها المتأمركة للعالم الكثير من الانتقادات الجديرة بها. وبعد نشرها، تبنتها الشاشة الفضية في شريط سينمائي يحمل العنوان نفسه عام 2007. كما تم تحويلها إلى العديد من العروض المسرحية وإلى رواية مصورة.

2 – الأدب الأفغاني بين وحشية طالبان وأحزان المنفى

تقول الكاتبة الأفغانية سبوجماي زريابي: (تسألونني عمّا هو المنفى… قبل سنوات عديدة، وفي منطقة هادئة من كابول، قرأت الترجمة الفارسية لكتاب «رجل من كابول»، للمؤلف رابيندراناث تاغور. وبفضل قلمه السحري، علّمني هذا الكاتب الهندي المتألّق، معنى ألم المنفى (…). أنا التي كنت في منأى عن البؤس ولم أكن أعرف الحرب إلا في الكتب، كنت أعتقد أنني سأبقى في منأى عن المنفى… إلى آخر أيام حياتي. في تلك الفترة، لم يكن يخطر ببالي أن تُحوّل يوما يدُ التاريخ الظالمة كل أفغاني إلى «رجل كابول» مثلما رواه تاغور، وأن يُفرّق جنون التاريخ أمّة بأسرها، ليُشتّت الأفغانيين في كل أنحاء العالم، بعيدا عن آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وأخواتهم وإخوتهم. ولا أعرف حواليّ عائلة واحدة سلِمت من التمزّق الذي سبّبه المنفي، أو عائلة لم تعش -دون أن تكون قد قرأت تاغور- قصة “رجل كابول” ولم تعاني من الآلام نفسها).
وحين متابعة ما ساهم به الكتاب الأفغان على درب الممارسة الأدبية عموما، والروائية حصريا، يمكن طرح السؤال: هل من الممكن أن يولد في سياق الإرهاب وجنون التاريخ المنفلت من عقاله أديب يكتب ويسجل بشفافية وصدق ما جرى ويجري حوله من دمار شامل يطال الحرث والنسل والزرع والضرع ونقي العظام؟ أو أن للمنفى – الذي كان عبارة عن اختيار وليس قدراً – الدور الكبير والجوهري في ظهور الأدب الأفغاني المعاصر الذي نقل ما يدور في سهول كابول بصورة دقيقة، أي بالصورة التي أبلغت عن المأساة بكل تفاصيلها وعنصريتها وموت الإنسانية فيها، زيادة على التناقض الحاد بين العرف والدين، وبين المتعالي المقدس والدنيوي المدنس.
شكلت رواية عداء الطائرة الورقية للكاتب والطبيب الأفغاني خالد حسيني، التي حولت بعد ذلك إلى شريط سينمائي مدخل الكثير من الناس في أركان الأرض الأربعة إلى حقل الأدب الأفغاني؛ والحقيقة أن الرواية إياها تلقي بالقارئ في عالم ملتبس تظهر فيه يد اليانكي الأمريكي التي تعبث بكل شيء، بالأرض والإنسان، بالعطر والحشيش والأفيون. بل إن كاتب الرواية نفسه صناعة أمريكية تبرئ العم سام من جميع ما ألحقه بالأرض والإنسان من دمار مادي وجسدي ونفسي.
وقد تسمح عبارة (المنفى لا يكتب وإنما يعاش) للقاء بالكاتب الأفغاني الفرنسي عتيق رحيمي الفائز بجائزة غونكور عن روايته التي كتبت باللغة الفرنسية: حجر الصبر عام 2008؛ وترجمها إلى العربية عام 2012 صالح الأشمر. إنها رواية تأخذ إلى عوالم وأسماء مختلفة وشديدة التميز في حقل الأدب الأفغاني الحديث والمعاصر. رواية تبدأ من استشهاد مقتبس عن المسرحي أنطونان أرطو لتكتب حكاية الشاعرة الأفغانية التي قتلها زوجها بفظاعة وحشية عام 2005.
وعلاوة على عتيق رحيمي الذي أطلق في سماء الخطاب والتداول ثلاث روايات باللغة الفارسية، هناك الكاتبة اللامعة سبوجماي زرياب التي كتبت: سهل قايين، تلك الجدران التي تسمعنا؛ ثم عارف سلطان زادة:ضائعون في الهروب؛ وعارف فرمان الذي كتب رواية: الأفغاني. وتتيح هذه الأعمال الروائية شكلا من معرفة الأدب الأفغاني، يغطي النقص الناتج عن نقص القراءة، و عن العزلة التي فرضتها الحدود اللغوية و قلة الترجمة إلى العربية بكيفية خاصة. وانضاف إلى ذلك أزمة الهوية التي يعيشها معظم الكتاب الأفغان الذين يعيشون أحزان المنفى بحثا عن حرية وطن لا يقترب إلا لكي يمعن في الابتعاد.
بلسان إمرأة كتبت رواية حجر الصبر وعلى لسانها رويت أحداثها. إمرأة تدير دفة السرد ومن شرفة عينيها يتعرف القارئ على عالم الرواية ومجتمعها. امرأة تحررت بمجرد أن غيرت لغتها لتحكي بمرارة وصدق ما يلحق بالمرأة من اضطهاد وبشاعة وصلف وإهدار للكرامة يصل حد العبث.
وفي هذا المعنى، يظهر أن عتيق رحيمي، بعد أن أصدر ثلاث روايات بلغته الأم، وجد أن صوتا غير صوته الأصلي كفيل بالإعلان عن حضوره وبلوغ قاعدة واسعة من القراء.
كان من المفترض أن يعرف القارئ رواية حجر الصبر إثر تتويجها بجائزة غونكور. غير أن الأسوار العالية والمصفحة بالظلام والإظلامية التي شيدتها حركة طالبان وسودتها أمريكا لانتاج صورة بشعة وغريبة التفاصيل وغرائبية المظهر شكلت عائقاً أمام مثقف بسيط يبحث في منصات معرفية، يتبادلها قراء مثله، عن كبار الكتاب وعن الروائع العالمية في درب الكتابة الروائية. ومع ذلك، فصوت عتيق رحيمي وسبوجماي زرياب يحض على الذهاب إلى أفغانستان. فلنذهب إلى أفغانستان لنعرف على الأقل أن الذين لا يعرفون الحب، يصنعون الحقد والضغينة والحرب. ولنعرف ثانيا ضرورة عدم الاعتماد أبدا على من عرف لذة السلاح؛ وكي نعرف ثالثا أن الرجال حين يملكون السلاح، ينسون النساء… وكي نعرف هذه الحكمة التي تجب معرفتها: إذا كان من الصعب أن يولد المرء امرأة، فأكثر صعوبة من ذلك أن يكون رجلا… فما رأيكم في الذهاب إلى أفغانستان؟!


الكاتب : عبد الجليل بن أحمد الأزدي

  

بتاريخ : 10/05/2024