مآثر الريف.. سَلَّة بقايا من منجز حضاري وصل شذاه الآفاق.. سفر في مسارات التوهج والانكسار

في هذا السفر سنحاول أن نجول في رحاب بعض المآثر التاريخية بالريف؛ ونصطحب معنا القراء في أقاصي التاريخ والجغرافيا للاطلاع على منجز حضاري وصل شذاه الآفاق؛ لسنا هنا بصدد تقديم دراسة أكاديمية بقدر ما يتعلق الأمر بنتف تاريخية ترصد لحظات توهج وانكسار؛ لحظات يصعب أن تنقاد بسهولة للباحث كما القارئ؛ خاصة وأنها ستكون رحلة طويلة تغطي حوالي إثني عشر قرنا.
سنشد الرحال إلى منطقة الريف التي شهدت أحداثا ووقائع تأسر الألباب وتشكل غمد المضمر التاريخي؛ فكلما بلغنا محطة إلا وتأهبنا لسفر آخر ومحطة أخرى؛ رحلة سنجوب خلالها رقعة تراب ليست بالكبيرة ولا بالشهيرة؛ ولكن الأحداث التي عاشتها استطاعت أن تسير بها إلى مقامات كتبت بماء من ذهب في سجلات الجند كما في دواوين الأدب.
منذ بداية الرحلة سنرتب عقولنا وأرواحنا على أننا سنعيش أحاسيس متناقضة؛ فنحن أمام معالم تجسد فترات مجد وعز، وأكيد سيأخذنا الزهو بمسارات ودروب هذا الأرث الحضاري؛ ولكن بالمقابل سنعيش فترات انكسار تمس عمق الروح وحبة القلب؛ خاصة حينما نطلع على ما سجله التاريخ بحبرأحمر أو باهت اللون.
محطات سفرنا شكلت دوما نقطة التماس مع الآخر؛ وأمَّنَت خوف المغاربة؛ فيها عاشت أسماء صنعت جزءا من مجد التاريخ المغربي؛ وأسست لمذهب الصفاء والنقاء؛ وكان فيها للسنة وأهل الجماعة تعابير الوفاء حتى وإن كتب لبعضها أن يفقد «مظلاته الشمسية» في معركة الزمن؛ في هذه المحطات تجاور القلم والرصاص؛ وتساكن الجند مع الفقهاء والأدباء؛ وتعايشت الأديان والأعراق واللغات.
سفرنا مسيرة نقدم خلالها مسارات نجاح وأيضا بعضا من ندوب وعذابات الروح؛ هدفنا هو المساهمة في التعريف بكنوز ظلت مطمورة؛ هي مسيرة همس وإشارة؛ وأحيانا هي بالصوت العالي؛ قد نسرع فيها الخطى وقد نبطؤها؛ سنطل على القراء من شرفات القرن الثامن الميلادي ونقول إن ثمة ما يفتح باب الحياة.
فأخيرا حظيت بعض هذه المآثر بالتفاتة مهمة حين خضعت -ولأول مرة- لعملية الترميم والتهيئة ضمن برنامج التنمية المجالية «الحسيمة منارة المتوسط» بشراكة وزارة الثقافة ووزارة الداخلية، وخصص لهذا الغرض مبلغ مالي اجمالي بحوالي 32 مليون درهم لترميم خمسة معالم؛ وهو الاهتمام الذي نتمنى أن يتحقق لباقي المعالم التاريخية بالريف، والتي تئن تحت وطأة النسيان والإهمال وينطبق عليها وصف الشاعر حين قال:
تبكي ويصهل في أوصالها وجع
يزلزل القلب والآفاق والطرقا.

النكور إمارة إسلامية من المغرب الأقصى (القرن 8 م )

سننطلق في هذه الرحلة من النكور او مرسى موسى؛ حوالي 25 كلم شرق مدينة الحسيمة؛ حيث نزل العبد الصالح؛ منصور بن صالح أيام الخليفة الخامس من خلفاء بني أمية عبد الملك بن مروان (بداية القرن 8 الميلادي) وأسس أول إمارة إسلامية مستقلة بالمغرب الأقصى؛ ومنذ حينها غدت الإمارة منطلقا للجهاد والدعوة؛ وكذلك للتبادل التجاري والاقتصادي مع الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
رحلتنا ستكون من قبيلة بن يصليتين سابقا وتمسمان باقليم ادريوش حاليا، التي كانت قاعدة لحكم بنو صالح، نحن إذن في اتجاه مدينة الحسيمة نحو السهل الواقع في المجال الجغرافي من النهر إلى النهر؛ من النكور إلى غيس؛ وعلى بعد أميال قليلة من حوض المتوسط، وهو الموقع الذي جعل من الإمارة مركز دائرة الصراعات العسكرية؛ السياسية؛ والمذهبية.
الإمارة بقيت ضمن هذا الصراع إلى حدود القرن الحادي عشر حيث غارت عليها جيوش المرابطي يوسف بن تاشفين ودمرتها عن آخرها؛ وقبلها تعرضت لعدة هجومات مثل هجوم النورمان (ق 9 الميلادي) والفاطميين لمرتين؛ ولقبائل مكناسة بقيادة موسى ابن ابي العافية، تعرضت لهجوم من الخلفاء الأمويين بالأندلس.
قبل هذا الانكسار عاشت المدينة فترة ازدهار اقتصادي؛ فلاحي ونهضة ثقافية واضحة؛ حيث عرفت بصناعة الزجاج من الحجارة والمنقانة minqãna؛ إلى جانب تطوير تقنيات وطرق جديدة في المجال الفلاحي تهم تطوير كيفية السقي والري وعمليات انتقاء الأغراس والبذور؛ فيما منحت لنا في المجال الثقافي أسماء وازنة من عالم اللغة؛ الشعر؛ الحساب والدين.

المزمة..عنقاء تقاوم كل من يحاول أن يسوي لحدها

رحلتنا ستستمر في اتجاه الحسيمة على خط الساحل الجنوبي للمتوسط؛ نحن على بعد 16 كلم غرب مدينة النكور؛ بالضبط بالمجال الجغرافي المقابل لجزيرة النكور المحتلة حاليا؛ نتواجد أسفل اجدير وبالضبط في مدينة المزمة التي كانت تعتبر إحدى حواضر إمارة النكور وارتبط وهجها الاقتصادي؛ التجاري؛ الحرفي والثقافي بالتطور الذي عرفته مدينة النكور وارتباطها أيضا بمرسى جزيرة المزمة.
وتؤكد المصادر التاريخية أن مدينة المزمة أصبحت بداية من القرن الحادي عشر بديلا لمدينة النكور، وذلك بعد توالي الهجومات العسكرية على هذه الأخيرة؛ حيث تمكنت من أن تصبح المنفذ التجاري الوحيد بساحل الريف الأوسط إلى أن تراجعت مكانتها الاقتصادية والسياسية كذلك لفائدة شقيقتها مدينة باديس خلال نهاية الدولة المرينية.
أهمية المدينة وموقعها الجغرافي المقابل للجزيرة جعل منها محل اهتمام عبر قرون من الزمن فبعد الدولة المرابطية أصبحت المزمة غاية في التألق على عهد الدولة الموحدية وتم تسويرها بداية القرن الثالث عشر الميلادي؛ لتنتقل بعد سنوات فقط إلى نفوذ الدولة المرينية وتصبح قاعدة لقيادة وضبط مختلف التحركات العسكرية والتجارية بساحل المتوسط.
وحتى حينما خفت وهج هذه المدينة وضجيجها ظل اسمها مذكورا في العديد من الكتابات والمصادر التاريخية إلى حدود اليوم، حيث حافظت على حضورها خلال الدولة السعدية والعلوية وبقيت كالعنقاء «تكبر أن تصادا»، فالمزمة ظلت تشرئب بجيدها وتقاوم الوأد من تحت كثبان التاريخ حتى إن حاول البعض أن يسوي لحدها؛ فلسان حالها ظل يردد قول الشاعرالأموي مالك بن الريب:
فَطَوراً تَراني في ظلالٍ وَنِعمَةٍ
وَطَوراً تَراني وَالعِتاقُ رِكابِيا
وَيَوماً تَراني في رحىً مُستَديرَةٍ
تُخَرِّقُ أَطرافُ الرِماحِ ثِيابِيا

باديس..جزيرة جهاد ومدينة علم (القرن 11 م)

محطتنا هذه المرة تقع على بعد 47 كلم من مدينة الحسيمة؛ هي واسطة عقد فريد من المآثر التاريخية بالريف؛ إنها جزيرة جهاد وتبادل تجاري؛ وأيضا مدينة علم وأدب وثقافة؛ يمكن القول إننا في حاضرة ولّادة للإبداع؛ للتعايش الحضاري والديني والعرقي واللغوي؛ وأيضا في حاضنة لقيم الوفاء والذود عن حياض الوطن.
وجهتنا نحو مدينة باديس التي يقال إنها بنيت على أنقاض المدينة الرومانية برييتينا Praietina وعرفت تطورا مهما ما بين القرن الحادي عشر والخامس عشر الميلادي، وقام مثلا السلطان الموحدي محمد بن يعقوب بن يوسف خلال القرن الثاني عشر الميلادي بتسويرها حماية لها من غارات الطامعين مما جعلها في زمنه ذات ازدهار رفيع.
يقال إن المدينة ظلت كذلك إلى حدود القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث انهيار الدولة الوطاسية وقيام الدولة السعدية بعدما أصبحت مسرحا لمعارك عسكرية بين جيوش الدولتين إلى أن شهدت سنة 1564 تدميرا نهائيا على يد الغزو الإسباني.
المدينة كانت في وقت سابق تسمى «مرفأ فاس» أو «مرفأ تازة» حيث كانت تربط المغرب بموانئ تونس؛ مصر والشام كما جنوب فرنسا وإيطاليا وإسبانيا…؛ فموقعها بمحاذاة جزيرة القميرة Peñón de Vélez de la gomera أو جزيرة باديس إلى جانب توفرها على دار الصنعة استطاع أن يمنحها هذا التميز والغنى الحضاري.
جودة خشب الغابات التي كانت محيطة بالمنطقة جعل صناعة الأثاث ومختلف أنواع المراكب تعرف ازدهارا كبيرا بهذه المدينة حيث كانت تتوفر على arsenal أو «دار الصنعة» المخصصة لصناعات السفن؛ وهي من بين المميزات التي أكسبت باديس والمغرب شهرة كبيرة وجعلت منها صلة وصل ببن عدوتي المغرب والأندلس وكذلك مرفأ تبادل تجاري وعبورالمجاهدين.
المصادر والكتابات التاريخية تشير إلى أن المدينة استقبلت من جنوب الأندلس -بعد سقوط غرناطة- طائفة مهمة من اليهود الذين استقروا بها في حي الملاح وكانوا يتاجرون في الخمور؛ قبل أن ينتقلوا إلى المناطق المجاورة للمدينة وباقي المناطق الداخلية للمغرب ليمتهنوا حرفا مختلفة؛ أغلبها في الصناعة التقليدية.
التاريخ يفيد بأن مدينة باديس كانت أيضا قبلة للهاربين من بطش الاضطهاد المسيحي وكذلك لبعض الثائرين على السلطة المركزية ولكن مع الانحياز دائما للوطن والوفاء لرموزه والنموذج إلقاء القبض على منصور بن سليمان الثائر على السلطان أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني؛ وكانت أيضا مقصد الحالمين من أهل اللفظ البديع والأدب الرفيع.
فضلوع هذه المدينة والجزيرة في أعمال الحرب والجهاد لا يمكن أن يخفي ريادتها في الثقافة والسياسة؛ حيث كانت ملاذا لأسماء وقامات في مختلف الحقول المعرفية؛ وهنا نستحضر إقامة ذي الوزارتين الفقيه والأديب لسان الدين بن الخطيب والذي أبدع بها سينيته الطويلة والبديعة التي يقول في مطلعها:
عسى خطرة بالركب يا حاديَ العِيس
على الهضبة الشماء من قصر باديس

طوريس..قلعة موحدية كانت هدفا للغزو الإيبيري (القرن 13 م)

محطتنا الرابعة لا يفصلها عن نقطة انطلاق مسيرتنا سوى بضع أميال بحرية؛ وبالضبط حوالي 98 ميلا غرب مدينة الحسيمة؛ دائما على الساحل الجنوبي للمتوسط؛ إذن نحن بقلعة طوريس العسكرية أو قلعة صنهاجة؛ سفرنا الزمني هذه المرة سيأخذنا في البداية – ونحن بهذه المحطة- إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ أي عهد الدولة الموحدية؛ حيث تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن القلعة بنيت في عهدهم.
ولكن سفرنا لن يتوقف هنا؛ لأن المعطيات التاريخية تفيد أن هذه القلعة كانت هدفا للغزو الإيبيري؛ والذي استطاع أن يتخذها حصنا ضمن سياسته الرامية إلى احتلال الساحل الجنوبي للمتوسط؛ وذلك بعدما تمكن البرتغال من احتلال سبتة 1415 وتارغا 1502م؛ كما كانت هدفا للاستعمار الإسباني الذي استهدف نفس الشواطئ بعد الوهن السياسي والعسكري الذي عرفته الدولة المرينية واحتلال مليلية سنة 1497م؛ ومدينة باديس سنة 1507م.
طوريس هي في الحقيقة تحفة معمارية غنية وفريدة؛ تمزج بين المعمار المغربي الأصيل والمعمار الأندلسي؛ وهو نهج دأبت عليه العمارة  الموحدية التي تأثرت بمؤثرات حضارية متنوعة مغربية أندلسية وشرقية؛ وتشير الدراسات التاريخية إلى أن العمارة الموحدية وإن كانت ذات خصائص ومميزات مشتركة فهي كذلك تختلف من موقع لآخر من حيث الظروف الطبيعية والإمكانيات التي يوفرها هذا الموقع أو ذاك.
والقلعة تتضمن خمسة أبراج مستديرة مشيدة بمواد غير متجانسة تتكون أساسا من الحجارة والحصى والجير؛ وتعرف تقنية البناء هاته في العمارة العسكرية ب»الطابية Tabiya» سواء في بلاد الأندلس أو في المغرب الأقصى حيث يؤدي استخدام هذه التقنية إلى تقوية الأبراج وتماسك عناصرها الأساسية.

مسجد مسطاسة..كل، ومحرابيه (القرن 14م)

محطة سفرنا هذه المرة ستكون معلمة دينية تشكل تحفة معمارية على عدة مستويات؛ الأمر يتعلق بمسجد مسطاسة العتيق؛ أو مسجد المحرابين؛ والذي يقع على بعد حوالي 58 كلم من مدينة الحسيمة ضمن دوار «مسطاسة» ووسط واد «اعشيرين» الذي يخترق هذا المدشر الواقع بالجماعة القروية بني جميل مسطاسة.
المسجد الذي يوجد غير بعيد عن الطريق الساحلية الرابطة بين اقليمي تطوان والحسيمة -الطريق الوطنية رقم 16- يرجع تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر الميلادي؛ زمن السلطان ابي حسن المريني الملقب بالسلطان الاكحل؛ ويعتبر إحدى التحف المعمارية الدينية التي عمل المرينيون على تثبيتها بالريف الأوسط في إطار التوسع والتواجد الذي عملت هذه الدولة على ضمانه بالمنطقة.
والملاحظ أن هذا المسجد الذي يتوفر على صومعة بارتفاع عشرة أمتار يضم محرابين كثلة من المساجد الأخرى بمشارق الأرض ومغاربها التي تحمل هذه الخاصية؛ فالمحراب الأول موجه نحو الجنوب الشرقي فيما الثاني موجه نحو الشمال الشرقي؛ وهو ما يميز هذه التحفة الأثرية الدينية بالريف، والتي عمرت أزيد من ثمانية قرون.
المسجد يعتبر بحق تحفة معمارية ودينية عريقة؛ صارت منذ ذلك التاريخ معلمة علمية وتربوية لا تخطئها عين الباحث في هذا المجال؛ حيث كانت مركزا جذابا لثلة من العلماء البارزين في الفكر الإسلامي بمختلف تفرعاته وتخصصاته؛ وهو ما جعل طلبة العلم يقصدونها للحصول على المزيد من العلوم الدينية واللغوية.
غير بعيد عن المسجد – 50 دقيقة مشيا على الأقدام- وعلى قمة جبل «بوقشقاش» وبارتفاع يبلغ 500 متر عن سطح البحر توجد بقايا وآثار بناية تقول المصادر التاريخية إنها قلعة بنيت في عهد ذي الدولتين السلطان ابي العباس احمد المريني واختار لها موقعا استراتيجيا لضبط تحركات مختلف القبائل المحيطة بالمنطقة.

قلعة اسنادة..أدوار عسكرية واقتصادية (القرن 15م)

ضمن سفرنا المستمر في التاريخ والجغرافيا نتوقف بقلعة استادة او «ثرا ن باديس» التي يعود تشيدها إلى القرن الخامس عشر الميلادي؛ عهد الدولة السعدية؛ نحن هنا على بعد 38 كيلومترا من مدينة الحسيمة وضمن المجال الترابي للجماعة الفروية التي تحمل نفس الاسم أي سنادة؛ وأساسا بمدشر «الواديين» نسبة إلى وادي بني يطفت الذي تقع القلعة بمحاذاته.
تشير المصادر التاريخية إلى أن قلعة سنادة يعود بناؤها إلى عهد السعديين بهدف دحر الاستعمار الإسباني ومحاولة مباغتته قبل التوغل في البر؛ وهي القلعة التي كانت ذائعة الصيت باعتبارها صرحا من الصروح العسكرية لشمال إفريقيا؛ حيث عرفت منذ إنشائها بأدوارها العسكرية بدءا بعهد السعديين؛ والعلويين -زمن المولى إسماعيل- كما أقام بها الثائر بوحمارة.
القلعة ظلت دائما؛ ولقرون من الزمن؛ ضمن دائرة الاستراتيجية التي أنشئت من أجلها؛ وهي القيام بأدوار عسكرية لمواجهة الاستعمار وحماية القوافل التجارية وقيادة الحركات المخزنية وإقامة الحاميات؛ فكان أن قام بتجديدها وترميمها المولى إسماعيل بداية القرن الثامن عشر الميلادي؛ وبالضبط 1702 ميلادية.
والقلعة تضم سبعة أبراج وتقع على مساحة إجمالية تقدر بحوالي 15.000 متر مربع؛ ضمنها الحامية العسكرية التي أقامها السلطان العلوي المولى إسماعيل وهي مربعة الشكل؛ طول كل ضلع منها حوالي 120 مترا، وبها عدة مرافق لإيواء الجيوش وقوادهم؛ وكذا مخازن المؤن وإسطبلات للدواب والماشية وبئر ماء…
بجانب الأسوار الخارجية للقلعة توجد المدرسة الإسلامية؛ الأكاديمية العسكرية التي انشئت سنة 1946؛ وكذلك المقبرة اليهودية التي يرجع تاريخها -حسب بعض المصادر- إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر حيث عرفت المنطقة توافد طائفة يهودية مهمة بعد نزوحها من الساحل الجنوبي للأندلس.

القلعة الحمراء: تحفة أطلسية بأعالي الريف
(القرن 20 م)

بعد كل هذا المسار سنقفل عائدين في اتجاه جنوب مدينة الحسيمة؛ على بعد 40 كلم منها؛ طريقنا سيكون نحو جماعة أربعاء تاوريرت قيادة شقران حيث قرر الكولونيل الإسباني ايميليو بلانكو ايزاغا، أربعينيات القرن الماضي، بناء قلعة استوحى تصميمها من الشكل المعماري لقصبات الجنوب المغربي.
القلعة المعروفة محليا باسم «فيسينا» -وهو تحوير للكلمة الإسبانية «Oficina» التي تعني المكتب- تقع على‬ ارتفاع بحوالي 400 ‬متر فوق هضبة محاذية لوادي‮ ‬النكور؛ مساحتها الإجمالية تغطي حوالي 900 متر مربع وبثلاث طوابق؛ وتشتمل على 99 غرفة خصصت للمرافق الإدارية؛ المحكمة؛ مستوصف؛ السجن؛ مخازن الحبوب؛ إسطبلات الدواب…
وللإشارة فإيميليو بلانكو أشرف على تشييد العديد من المعالم العمرانية بالحسيمة، والتي حاول من خلالها المزج بين عناصر المعمار الإسباني والمعمار المغربي الأمازيغي الإسلامي؛ بالخصوص استخدام تلك العناصر التي استوحاها من قصبات وقصور الجنوب؛ والتي كان تأثيرها واضحا في كل المباني التي شيدها بالمنطقة، وذلك ربما في محاولة لخلق «توليفة معمارية» غير صادمة للساكنة المحلية.
كما أن هذا العقيد الإسباني -الذي تنقل في مختلف مناطق وقبائل الريف لمدة عقدين من الزمن؛ وكان مكلفا بعدة مهام عسكرية وإدارية قبل أن يصبح مراقبا عاما- له ‬إسهامات أخرى في الاهتمام بالثقافة والفن المحليين، وكل ما له ارتباط وثيق بعادات وتقاليد المنطقة والقيام بتدوين ذلك وإنجاز رسومات له وبالخصوص ما يتعلق بالرقص والغناء.
تذكار الجولة:
في نهاية جولتنا السياحية والثقافية والتي قادتنا إلى رحاب بعض المآثر التاريخية بالريف؛ لا بد أن تكون فصول من الأحداث والوقائع؛ وقصص شخصيات وأسماء صادفناها؛ فيما أخرى أوحت له بها السياقات والقراءات؛ قد تعلقت بذاكرة مَن صاحبنا، ولكن الأساس هو التعرف على منطقة شهدت تفاعلات عميقة مست الإنسان والمجال وصنعت جزءا من تاريخ هذا الوطن.
وقد يلاحظ الزائر أن ثمة فراغات تصادفه في جولته، والتي ترتبط في جانب منها؛ ربما؛ بما يسميه بعض الباحثين بغياب البحث الرصين والجاد حول مساهمة البحر في تخصيب مختلف مناحي الحياة المغربية؛ حيث يقول الحسين بولقطب إن «موقع المغرب على البحر الأبيض المتوسط جعله نقطة عبور أساسية للعديد من الشعوب والأجناس الباحثة عن موطئ قدم لها بالقارة الإفريقية» ، ويضيف أن إعادة كتابة تاريخ المغرب من منظور وطني يجب أن تنطلق من تحرير تاريخه البحري.
فالريف بموقعه على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط كان بالفعل مجالا خصبا لتفاعلات ظل الجزء الأكبر منها غائبا عن اهتمامات الباحثين؛ ولم تعرف طريقها إلى الدراسة والتحليل؛ خاصة وأن المنطقة اتسمت دائما بعدم الاستقرار الذي ساهم في اختفاء قدر مهم من الأرشيف.
ومما يمكن أن يلاحظه القارئ الذي اصطحبناه معنا في هذا السفر الممتد في التاريخ والجغرافيا؛ والذي قدمنا فيه مجموعة من مآثر الريف ومعالمه التاريخية بعيدا عن الدرس التاريخي؛ أن الاهتمام الذي حظيت به هذه المآثر وترميم البعض منها ضمن برنامج «الحسيمة منارة المتوسط» ربما سيساهم في إنعاش السياحة الثقافية وسينير دروب ودهاليز تاريخ المنطقة.


الكاتب : الحسيمة: الغبزوري السكناوي

  

بتاريخ : 26/02/2022