«مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز حين تتجاوز المخيلة عبقرية الطبيعة

يلزمني مائة عام من العزلة الناسكة، كي أستبئر هذا العمق المهيب، يا خوسي أركاديو بوينديا كي تزداد وتنمو سعة انبهاري بشساعات الخيال لديك يا بوينديا، ويلتذ استغواري ويحفز عمقه الرهيب وعاء ذاكرتي وترجحه على الاستلهام السحيق. مجرد ذكر مائة عام من العزلة يمنحني بالغ القوة على مساءلة حجم الوعي الناشئ في أدغال القراءات واستخلاص شساعات أيامنا الأدبية التي عشناها ونحلم باسترداد متعتها وأحلاها.
النسخة التي بين يدي من «مائة عام من العزلة» وتعني بالإسبانية Cien años de soledad)‏) وهي رواية للكاتب غابرييل غارثيا ماركيث، ترجمة صالح علماني نشرت طبعتها الأولى سنة 2005 والسادسة 2014، أما تاريخ تأليف الرواية فيعود تحديدا إلى سنة عام 1967، وطبع منها قرابة الثلاثين مليون نسخة.
تعتبر هذه الرواية من أهم الأعمال الإسبانية الأمريكية خاصة، ومن أهم الأعمال الأدبية العالمية كذلك، كما أنها تعتبر من أكثر الروايات المقروءة والمترجمة للغات أخرى. ويمكن تلخيص الرواية في سرد الكاتب لأحداث القرية المدينة من خلال سيرة عائلة بوينديا، وذلك على مدى ستة أجيال عاشوا خلالها في قرية خيالية تدعى ماكوندو، وقد أدى اندماجهم في نمط الحياة إلى تسمية الكثير من أبنائهم في الرواية بهذا الإسم.
وبسبب هذا الجموح في الخيال الإبداعي الشاهق، تفاقمت الهوة، فما بين ذاكرتي القاصرة، وبين ما حدث للكولونيل أورليانو بوينديا أمام مقصلة الإعدام، شاهق سحيق ومارق. وما سيخطر على بال الكولونيل، وما سترويه له الذاكرة، وما سينساب من أنهار المكاشفة وطوافين البوح وشرائح الأسرار الخصيبة المتعرشة على ضفاف النهر الدائم الجريان قبل أن يمزق الرصاص جسده، مسافة من الذهول غير قابلة للتجسير أبدا. ليس لأن مخيلة غابرييل كارسيا ماركيز الجامحة تتجاوز على الدوام عبقرية الطبيعة، بل لأنها تتجاوز ذلك، وتمضي إلى ما وراء الإعجاز والسحر أيها اللئيم بوينديا.
لن أستطيع اختزال التفاصيل هنا.. بهذه الكثافة يصعب، لاسيما ما حدث ذلك المساء البعيد الذي أخذك فيه والدك للتعرف على الجليد، حيث كان العالم حديث النشوء، هناك غير بعيد عن قرية ماكوندو حيث كانت أسرة غجرية، تنصب خيمتها قريبا وتدعو، بدوي أبواق وطبول صاخبة، إلى التعرف على الاختراعات الجديدة . آنذاك لم تكن القرية سوى فضاء من عشرين بيتا من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة، بيضاء وكبيرة، مثل بيوض خرافية ص 7.
تعتبر الرواية من وجهة نظر الدارسين والباحثين والنقاد بكل لغات العالم «استعارة للتفسير النقدي للتاريخ الكولومبي، من التأسيس إلى الأمة المعاصرة، فرواية «مائة عام من العزلة «لا تكتفي بتقديم خرافات قومية مختلفة من خلال قصة عائلة بوينديا، التي تضعها روحها المغامرة وسط الإجراءات الهامة للأحداث التاريخية الكولومبية، مثل الإصلاح السياسي الليبرالي في الحقبة الاستعمارية، والآراء المختلفة في القرن التاسع عشر المؤيدة والمعارضة لهذا الإصلاح، ووصول السكك الحديدية إلى بلد بطبيعة جبلية، وحرب الألف يوم (غيرا دي لوس ميل دياس، 1899-1902)، الهيمنة المؤسسية لشركة يونايتد فروتس («شركة أمريكان فروت» في القصة)، والسينما، والسيارات والمذبحة العسكرية للعمال المضربين التي تعبر عن السياسة التي اتبعتها الحكومة مع العمال.»
وليس غريبا تصنيف الكاتب كأحد الروائيين الأربعة الأكثر تأثيرا وقوة من أمريكا اللاتينية في الحقل الأدبي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، إلى جانب البيروفي ماريو فارغاس يوسا والأرجنتيني خوليو كورتاثر والمكسيكي كارلوس فوينتس. وقد أكسبت رواية مئة عام من العزلة (1967) غارسيا ماركيز شهرة دولية كروائي من حركة الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية.
فأية براعة ألهمت بوينديا؟ وأي نجاح فائق الذكاء يجعل هذا الرجل «يخلق تاريخ قرية كامل من نسج خياله»، ماكوندو منذ أن كانت بدايتها الأولى على يد خوسيه أركاديو بوينديا، وعدد قليل من أصدقائه. تلك القرية التي أخفت لياليها الكثير من قصص الحب الصادق والملفوف بعبير الحب. ومع ذلك تكبر القرية وتترامى بناياتها حتى أصبحت أشبه بمدينة صغيرة تشهد الهزات والانتكاسات والعصيان المدني وقليلا من الديمقراطية الناشئة. لكن من أجمل الأفكار التي أراد الكاتب إيصالها ويستقيها القارئ بفرح غامر «أن الزمن لا يسير في خط مستقيم، بل في دائرة».
لكن أقوى لحظات الإبداع في الرواية تجسدها لحظة استقبال أبولينار موسكوبوتي الحاكم الجديد للقرية ص 84. لقد كشف موسكوتي عن ورقة في درج المنضدة، وعرضها على بوينديا «لقد عينت حاكما لهذه القرية» لم يكلف خوسيه أركاديو بوينديا نفسه عناء النظر إلى أمر التعيين، وقال دون أن يفقد هدوءه – لا نتعامل بأوامر الورق في هذه القرية. وعليك أن تعلم، مرة واحدة، أننا لا نحتاج هنا أي حاكم، لأنه لا وجود لما يتطلب الإصلاح.» بعد ذلك سيقدم بوينديا دون أن يرفع صوته، رواية مفصلة لكيفية تأسيسهم لقرية ماكوندو، وكيف وزعوا الأرض، وشقوا الطرق، وأدخلوا التحسينات التي راحت تستدعيها الحاجة، دون أن يزعجوا أية حكومة، ودون أن يزعجهم أحد، ثم قال: «نحن مسالمون إلى حد أننا لم نمت بعد موت طبيعية. وكما ترى، لا توجد لدينا مقبرة بعد.» وقال إننا لم نؤسس قرية لكي يأتي أول غريب ليملي عليهم ما يجب أن يفعلوه».


بتاريخ : 24/02/2021