«ماستر كلاس» … كين لوتش: تأثرت بالسينما التشيكية في الستينيات

استضاف «ملتقى صناع السينما»، في أكتوبر الماضي، المخرج البريطاني الشهير كين لوتش في ماستر كلاس عبر تطبيق «زووم» (Zoom).
خلال هذا الدرس السينمائي، حاوره وقدمه الكاتب كليم أفتاب، وهو مراسل سينمائي لصحيفة الاندبندنت، ومدير قسم الأفلام في المجلس الثقافي البريطاني.

بدأ الماستر كلاس بتقديم سريع من الكاتب كليم أفتاب، قدم فيه لوتش باقتضاب سريع بكونه بدأ مسيرته المهنية في هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية، وأخرج العديد من الأفلام التي عرفت على مستوى العالم وحازت على جوائز عالمية. ثم حديث عن بدايات لوتش، والتي قال عنها: «كنت أحب المسرح عندما كنت مراهقاً، كنت أسكن في مكانٍ ولد فيه شكسبير، وكنت اركب الدراجات الهوائية في تلك المنطقة الكلاسيكية الجميلة، ولم تكن السينما تخطر ببالي في ذلك الوقت، لكن حين انضممت إلى «بي بي سي»، وكنا نقوم بالأفلام الخيالية التي كانت جزءاً من المسرح وليس السينما أنذاك، لكننا لطالما كنّا مهجوسين بفكرة أن يكون هنالك خيال في الشارع، لكن هذا لم ينجح، لذا وجب علينا أن نذهب خارج المسرح إلى أرض الواقع وهذا ما أخذنا لطريق السينما، ومن ثم بدأت عملي في السينما لأكتشف أنها وسيلة رائعة وجميلة فيها القصص والتفاعلات بين الشخصيات والصور والموسيقى والصوت، وهنالك الكثير من التفاعل من خلال هذه الأفلام أكثر من التفاعل مع المسرح.
أما عن طبيعة عمله مع بي بي سي، يجيب لوتش على سؤال محاوره قائلاً: بدأت العمل بالدراما التلفزيونية في بدايات 1960، قبل وقتٍ طويل، وكان هناك استوديو كبير، يحتوي العديد من المسارح، وكان الأمر يبدو وكأنك لا زلت في المسرح وهنالك كاميرات كبيرة تنظر إلى الممثلين الذين تدربوا هناك داخل مسارح الاستوديو الكبير، ونفذوا عملهم كأنه عمل مسرحي. كان مطلوباً منا أن نبحث عن قصص جديدة وعصرية، ولأن معظم ما كانوا ينتجونه كانت قصص من المسرح، أرادوا منّا في حينها أن نقدم أفلاماً أكثر واقعية وأكثر قرباً من حياتنا العصرية، لذلك توجب علينا الخروج من المسرح والذهاب للشارع ومراقبة حياة الناس وماذا يفعلون في حياتهم اليومية العادية، فخرجنا للشارع نحمل لكاميرات على أكتافنا وبدأنا نصور الناس ونركض خلف الأحداث لنجعلها حية بطريقة سينمائية، ومنذ تلك اللحظة استطعنا أن نتغلب على بيروقراطية البي بي سي وانتقلنا من المحتوى إلى الفعل على أرض الواقع.
أما بمن تأثر في تلك المرحلة، فأشار كين بأنه تأثر بالسينما الأوروبية المعاصرة، تحديداً بالموجة الفرنسية الجديدة، مضيفاً: «ناقشنا قواعد الفيلم التلفزيوني وطورناها إلى السينما، فعملية المونتاج بالتلفزيون تختلف كثيراً عنها في السينما، وكانت هذه الطريقة الفرنسية الجديدة قد أصبحت موجة مؤثرة جداً فقمنا باتباع تلك الطريقة الفرنسية في ذلك الوقت، لكن أيضاً تأثرنا بالطريقة الإيطالية، والأفلام من أوروبا الشرقية وليس الأفلام الأمريكية، فالعادات والتقاليد الأوروبية التي بدأت من الايطاليين ومن ثم من جمهورية التشيك».

السينما المعاصرة بالنسبة للوتش

يقول لوتش: «إذا نظرت إلى قصص مستقاة من تجربة حياة أشخاص وتقولها بصورة صحيحة وأصلية، فإن هذه القصص تعكس من وجهات نظرك ما تراه مهماً، وما تراه مهماً في قصص حياة هؤلاء الأشخاص تعكس وجهة نظرك عن المجتمع، بالتالي فإذا اعتبرنا أن التاريخ موضوع يستحق أن نتحدث عنه وهو يقول لنا شيئا عن الهيكلية وعن الصراعات في المجتمع، وعن السياق الاجتماعي، عن الطبقية في المجتمع، فهذه اسئلة بسيطة تقول لك الكثير عن الحاضر، يقول لك أموراً كثيرة على سبيل المثال ما هو دخل هذه الشخصية، أو هذه العائلة، من أين تأتي أموالهم، كيف يؤثر ذلك على تكوين شخصياتهم، فإذا كان على سبيل المثال تطور الشخص التقليدي يتطور بشكل مختلف ويكوّن صفات شخصية مختلفة عن شخص آخر يقوم بحرفة يدوية، وكذلك الأمر بالنسبة لشخص يعمل بالتجارة العالمية وشراء الأسهم، هذه الاسئلة المهمة التي تفكر بها لبناء شخصيات فيلمك، اين يسكنون وماذا يفعل اهلهم، ما هي المنطقة التي نشأوا فيها وماذا يفعلون هناك، كل هذه أمور مهمة أيضاً في سياق القصة، بأن يكون للشخصيات وللقصة سياق اقتصادي والاقتصادي بطبيعة الحال يأتي بالسياق السياسي، وتبدأ بطرح أسئلة سياسية».
وعلى كل شخص أن يسأل هذه الأسئلة إن كان الكاتب أو المخرج يقول قصة، فعلينا أن نسأل أنفسنا هذه الأسئلة، وإلا لن تكون الشخصيات مستندة إلى شيء حقيقي أو واقعي، يجب عليك التساؤل حول هذه الاسئلة الواقعية، لكن المشكلة أنك إن قلت شيئاً من وجهة نظرك السياسية بالفيلم سيقول البعض بأن هذا الفيلم سيكون مملاً وغير مثير للاهتمام بسبب ذلك.
لطالما قيل عن لوتش إنه مخرج اشتراكي، ولربما استخدمت أحياناً في سياقات للهجوم عليه، وهو أمر لا يزعج لوتش ويقول عنه: «لا أمانع حقيقة بوصفي بمصطلح الاشتراكية، لكنها كلمة كبيرة لديها العديد من المعاني، وهذا يعتمد في أي سياق ترد، فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية يتجنبون هذا المصطلح الاشتراكية، لكنني ببساطة أحب تسميتي بالاشتراكي».
عندما عرض فيلم كين لوتش «كاتي عودي إلى المنزل» على شاشة بي بي سي عام 1966، حقق مشاهدات عالية وأثار جدلاً كبيراً بين الجمهور وكذلك في الصحف والمجلات التي تحدثت عنه، وكما يقول أفتاب، فإنه في ذلك الوقت كانت ردة فعل الناس والمؤسسات مفاجئة، حيث أصبح هنالك حراك واسع لمساعدة الأشخاص الذين يعيشون بدون مأوى، وأصبح الأمر كذلك محل جدل في البرلمان البريطاني في حينها، وعن ذلك يعلق لوتش: الإنتاج التلفزيوني كان مختلفا عن المسرحي، ففي بلادنا كان لدينا العديد من محطات التلفاز ونصف الشعب البريطاني كان يشاهد هذه البرامج، بالتالي فإن ملايين الاشخاص كانوا يشاهدون الفيلم بذات الوقت، والتلفاز بوقتها كان أمرا جديدا، فأصبح حينها حديث الناس وحديث الصحافة وأحدثت القصة ضجة لكونها تتعلق بعائلة أصبحت بلا مأوى، ما دفع الحكومة إلى التفكير بمنح مأوى للأم والأولاد وليس للوالد، وفي النهاية قالوا: «لن نستطيع حتى منح الأم والاولاد مأوى، لذلك اصبحوا جميعاً مشردين بلا مأوى، كما أن الحكومة أخذت الأولاد لترعاهم في مأوى لأطفال، لذلك كانت القصة صادمة للجمهور البريطاني، وأثارت غضباً كبيراً وأصبح قضية سياسية.
كنّا أثناء تصوير الفيلم نشعر بأننا نبحث في قضية مهمة، لكننا لم نكن نتوقع رد الفعل الكبير الذي نتج عن عرض الفيلم. المشكلة في الفيلم أنه تحدث عن أمر حساس بالنسبة للمجتمع وأن هذا أمر قد يحدث لأي شخص في أي مكان، وتفاعل الناس مع موضوع الفيلم، وضعنا على مفترق طرق في مسيرتنا المهنية، لكن بعد ذلك أدرك صناع القرار أهمية التلفاز، وبدأوا بالسيطرة أكثر وأكثر على البرامج التي تبث عليه، وحتى الآن هناك سيطرة على برامج التلفاز».
وفيما إذا كن يعود إلى أعماله السابقة ويقيمها كأفلام جيدة وغير جيدة، يقول لوتش: «نعم أنا أعود لأعمالي السابقة وأشاهدها وأرى الأخطاء فيها، وأحياناً أجد أن المعالجة لم تكن جيدة كفاية في بعض الأفلام، أو أن بعض الشخصيات لم نكن قد درسناها بشكل كافٍ، في بعض الأفلام كان لدينا اسبوعان فقط لإيجاد الشخصيات المناسبة، وهذا الوقت قصير جداً، ولذلك وقعنا في الكثير من الأخطاء لكن بنفس الوقت السرعة والطاقة تعطيك قيمة رغم صعوبة العمل بضيق الوقت، لكن كان هناك شغف والتزام من الجميع في الطاقم».
أما عن سؤاله حول ما الذي تغير منذ صنع فيلمه «البقرة الفقيرة» «Poor Cow»، والذي عرض على شاشة السينما، من الطريقة التي تشاهد فيها الأفلام بالنسبة له، يجيب لوتش:
«باعتقادي غيرنا الكثير من منظورنا للأفلام والسينما بعد هذا الفيلم، قمنا بعملية تقييم في منتصف التصوير أنا والمصور «كريس» الذي عملت معه كثيراً وتعلمت منه أكثر، وبدأنا نغير منظورنا، حيث كنّا نضع الكاميرا على الكتف والركض وراء الأحداث، وكانت الأمور تسير بعفوية وبسرعة كبيرة، لكننا كنا نخسر القدرة على التأمل وفهم ما يقوله الآخرون، لذلك بدأت أشعر بعدم الرضا بتلك المرحلة بسبب ذلك، فقررنا في منتصف الفيلم أن نجلس ونتأمل فيما صورناه ونغير منظورنا وطريقة عملنا بالفيلم.
كان المصور كريس يصور بكاميرا قديمة كبيرة وثقيلة، لكنه كان قد عمل مع مصورين تشيكيين وتعلم منهم الكثير، لذلك فأنا تاثرت بالسينما التشيكية في الستينيات، أحببت الطريقة والصور والإضاءة، وطريقة التصوير، فقد كان للتشيكيين طريقتهم الخاصة والأصيلة في التصوير، تركز على الجانب الإنساني وحساسية الطريقة التي كان يصورون فيها بكونها بسيطة جدا، وأنت تبحث دائما عن البساطة والأساسيات، الصور، القصة، الشخصيات، يروون القصة بشكل بسيط. عمل معي كريس وتحدثنا مطولاً محاولين فهم تقنية تحقيق الهدف، وقسمناها إلى عناصر مختلفة، الاضاءة البسيطة، الاضاءة الطبيعية، والعدسة التي تستخدمها في التصوير بحيث لا تزعج أعين الممثلين، وتعلمنا أنه يمكننا أخذ اللقطات القريبة جداً للوجه التي تظهر ملامح الوجه وانفعالات الشخصية من خلالها، وكيف تصور من آخر الغرفة أو منتصفها، كيف تصنع للقطة إضاءة مناسبة، والأهم كيف تعالج كامل حكايتك من منظور إنساني متفهم متعاطف مع الآخرين من أجل فهم ما يحدث ومن خلال هذه العناصر عملت مع كريس بهذه الطريقة الجديدة، واستفدنا كثيراً بذلك الوقت من تواصل كريس الدائم مع صناع الأفلام التشيكيين.
الأمر أيضاً حدث معنا في فيلم «كيس» «Kes»، وهو طفل يعاني في حياته نتيجة اختفاء والده، وتعرضه الدائم للتنمر من الآخرين، لكن لديه موهبة عالية وكنا نصور هذا الفيلم في الشهر الثامن من عام 1968، حين بدأت الثورة في تشيكوسلوفاكيا في ذلك الوقت، حيث كان سقف حرية التعبيير عالياً، وحين كنا نصور دخلت الدبابات السوفيتية إلى براغ منهية بذلك تلك الحقبة من صناعة الأفلام. والتي أصبحت الحياة فيها معقدة وعليها الكثير من القيود، جاءت الدبابات ودمرت تلك اللحظة التي كنا نتمتع بها وكانت تلك لحظة حزينة بالنسبة لنا.»
كما تحدث لوتش عن علاقته كمخرج بطاقم الفيلم قائلاً: «السينما في الستينيات كانت مركزة على الاستوديو، والمخرجون كان لديهم الكثير ليقولونه ويقدمونه، والفيلم يجب أن يكون لديه عين موحدة، وفكرة خلاقة، ولكي تصل لذلك يجب أن تكون هنالك رؤية موحدة بين كل فريق العمل، لذلك فإن الأمر كان يبدو كما الاوركسترا، بحيث هنالك شخص واحد يقود الاوركسترا، وهناك أشخاص آخرون يعزفون وجميعهم مرتبطون بفكرة مشتركة وثيمة واحدة وبشكل منسجم تماماً. هذا أمر مهم جداً بالنسبة لصناعة الأفلام ليكون للفيلم نكهة مشتركة مرئية بصرية ولها علاقة بالأداء والقصة والرواية وبصياغة أو كتابة النص، الشيء الأساسي بالنسبة لي فيما يتعلق بشراكاتي مع منتج يفهم معنى ما نريد القيام به ولا يحاول التقليل من أهميته، وكذلك الأمر الاتصال مع الكاتب الذي يبلور هذه الفكرة، بحيث يكون الاثنان على نفس المستوى من الفهم، ليس فقط الحبكة والقصة ولكن أيضاً الجو العام وبيئة العمل وشخصيات الفيلم».
ويعطي لوتش مثالاً من تجربته الشخصية من بدايات التسعينيات، قائلاً:
«بداية التسعينيات، 1991 أو 1992، عاد بول لافيرتي، الذي كان يعمل محامياً لحقوق الإنسان في نيكاراغوا، حيث كان الأمريكان يحاولون إرهاب الدولة وتدمير المراكز الصحية والمدارس، لأسباب سياسية والرغبة بالسيطرة على الاقتصاد في نيكاراغوا، فأرادت الدولة النيكاراغوية التخلص من الاستعمار، لكن جزءاً من هذه الدولة بالحقيقة ذهبوا باتجاه آخر، ومولوا مجموعات متطرفة من أجل قصف هذه المناطق وتدمير الاقتصاد ونجحوا بذلك، وكثير من الشباب ذهبوا الى هناك للتضامن معهم في الجنوب، ومن بين الذين ذهبوا هناك كان شريكي بول لافيرتي، والذي عاد وقال لي: «أنا عدت لنتحدث! فاجتمعنا وتحدثنا وبدأنا نشعر بأننا على نفس الموجة سياسياً، وفي الامور الاخرى أيضاً، وكان هناك تفاعلا فيما بيننا وكنا ننظر الى الأمور من منظور إنساني مشترك، وأصبح صديقاً جيداً لي، وعملنا معاً في أكثر من فيلم لاحقاً، لذلك فإنني أعتقد أن الانسجام بن أعضاء الفريق يعتبر اساساً مهماً للوصول لنتيجة جيدة، فالصداقة بيننا شكلت أمراً مهماً جداً لنجاح الأفلام، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية الفريق، بالاعتماد على الاحترام والرؤية المشتركة بين بعضنا البعض، واذا كان هناك مشروع مشترك كنا نتشارك ايماننا في هذه القصة، وإيماننا بأهمية هذه القصص، ومن ثم نتحدث عن القصة وعن الشخصيات وهو يدون الملاحظات عن بعض الشخصيات، ونتحدث إن كانت هذه الشخصيات ستعكس المحتوى الذي اردنا ان نعكسه، ومن ثم نلتقي مرات متعددة وهو يكتب ويتحمل طبعا انطباعاتي وملاحظاتي وحين نصور يأتي في النهاية ويقول نحن سعيدين بالأشخاص الذين اخترناهم لهذه الأفلام».
وعن الأفلام التي صنعها عن العمال في الولايات المتحدة ونيكاراغوا وغيرها، يقول لوتش: «الموضوع كان هو الطبقة العاملة، الحياة اليومية، التاريخ، الصراعات، الخيانات، التضامن، الكوميديا، التراجيديا، ولماذا؟ لأننا بالأساس جئنا من هذه الطبقة، الطبقة العاملة والتي هي الاساس، ونحن نتشارك أنا وبول نفس الأفكار، الشيء الأساسي والمحوري في المعايير التي تبدأ من الطبقة العاملة وأثر الطبقة التي تمتلك الأموال، والتي تحصل على الربح من الطبقة العاملة، وهذا صراع المصالح المستمر عبر الطبقات وعبر الزمن، إذا في هذا المجتمع يأتي التغيير من هذه الطبقة، الطبقة العاملة المنظمة ولهذا السبب ليس فقط المكان ولكن الطبقة العاملة وقصصها كانت الأهم بالنسبة لنا».
وردا على سؤالٍ أخير حول ما يعتقده حول ما يسمى بفيلم كين لوتش، يقول: «ليس هنالك ما يسمى بفيلم كين لوتش، وعندما تتحدث عن فيلمك بهذا الشكل يكون هناك شيء من الأنانية او الحديث عن الأنا، كما قلت منذ البداية، الفيلم هو عمل جماعي يعتمد على شراكة تعقدها مع طاقم الفيلم كاملاً والنتيجة النهاية تكون ناتج عملك ضمن فريق كامل.»


الكاتب : إعداد: مهند صلاحات

  

بتاريخ : 12/12/2020