«ما كان حلما يفترى» للشاعرة فوزية رفيق القلق الذاتي بصيغة نسائية

 

«…ليس كل شعر يستحق أن يلتفت إليه.»
إدغار موران.

لم أجد سببا لهذه الصدفة، حينما تواصل معي الدكتور مصطفى غلمان كنت فارقت مدة غير يسيرة كتاب الأنثربولوجي الأمريكي كينيت براون الموسوم ب «أهل سلا». وقر في نفسي بأن هناك روحا تسكن بعض التفاصيل في غفلة عن التخطيط. كنت حينها أفكر في هذه معمار هذه المدينة المُصابة بضيق مزمن من غريمتها الرباط المُعتدة بنفسها. أو لم يندم يعقوب المنصور الموحدي على تأسيس مدينة الرباط؟ وتلك حكاية أخرى لا يسعها المقام.
سلا التي اشتبكت معها كانت سلا المدينة، فورة الجهاد ومنتهاه، ورثت الاسم من شالة، وأدت غاليا ضريبة الصراع بين دار الاسلام ودار الكفر. ضحية لقدرها الجغرافي، لكنها ارتسمت في التاريخ كقبلة للصلحاء والفقهاء والمتصوفة…منها ولدت الحركة الوطنية التي حملت مشعل المقاومة ضد الظهير البربري.
في كتابه «متاهة العزلة أو في نقد الهرم» كرَّس أوكتافيو باث جهوده في البحث عن اللحظة التي تعود فيها الشعوب إلى ذاتها، وتبدأ في طرح الأسئلة الحارقة عن وجودها. في هذه اللحظة يقول أوكتافيو باث بالذات يبدأ الحلم، وعندما نشعر بأننا نحلم، فمعنى ذلك أن لحظة الإفاقة قد أصبحت وشيكة كما يقول نوفاليس. بهذه المقولة أردت أن أستهل قراءتي لباكورة الشاعرة المغربية فوزية رفيق الحيضوري، الصادر عن منشورات مركز عناية سنة 2020، تحت عنوان «ما كان حُلما يفترى». وقبل أن أستعرض تيمات ومضامين هذا الديوان أدقق بداية في عتبة العنوان.

عتبة العنوان:

ورد في المعجم الوسيط للغة العربية بخصوص حرف «ما» التي تحمل صيغة التعجب، والتعجب هنا بين احتمالين: نفي الحلم، وإثبات الحقيقة. وقد يعطى لحرف «ما» صيغة الاستفهام، أو صيغة النفي، نفي الماضي، وقد يحتمل أن يكون حرف نفي قد يكون ناسخا لعامل على عامل، أو بمعنى نفي شرطي يقابل الخبل من قول الشاعر جرير:
ما كانَ أحْلامُ قَوْمٍ زِدْتَهُمْ خبَلاً …. إلاَّ كحلمِ فراشِ الهبوة الغادي
يقال في اللغة افترى الشَّخصُ أي ظلم بممارسة البَطْش، ويقال أيضا افْتَرَى الفَرْوَ بمعنى لَبِسَهُ، وافترى القولَ، افترى عليه القولَ: اختلقه، ادَّعاه، كذب فيه.

مضامين الديوان:

تنهجس فوزية رفيق في بالحديث عن الذات، عن انكساراتها، تشظياتها، عذاباتها، جراحاتها…وتكاد تكون الذات هي التيمة الناظمة لكل القصائد في فرحها وحزنها، انتشائها وانكسارها…عبر هذه الذات المعذبة تشرك فوزية رفيق القارئ في نقاش معرفي لا يزال يحبل بتفاصيل فائضة. نقاش العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، بين الألم والأمل….وغيرها من الدوال. وحدهم مختصو الابستمولوجيات يدركون حجم التعارض بين التاريخ والذاكرة. الذاكرة التي تتوسل بها الشاعرة هنا تمثل استرجاعي لنسق الذهنيات والتصورات الرمزية، وهي بالنهاية إنتاج اجتماعي وسياسي وثقافي. الذاكرة مثلما يقول المؤرخ ببير نورا «ما تبقى في أذهان الناس أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي». وهي أيضا موروث ذهني يختزل مسيرة من الذكريات الفردية والجماعية التي تغذي التمثلات المجتمعية. وبالتالي، فهي صورة مجرد صورة عن ماضي وقع استحضاره، اختزاله، تضخيمه، تقزيمه، تبريره وفق حاجيات الانسان. وغالبا ما تغلب على الذاكرة القدسية والرمزية، وقد تتلبس الصورة بالخيال، ونصير نحو مشكلة أخرى وفق ما عبر عنها الفيلسوف الفرنسي جون بودريار ب»اختفاء الواقع»، أو «ما فوق الواقع». بينما التاريخ بناء منهجي واشتغال مفاهيمي، موضوعاتي وإشكالي في آن، يقوم على المعالجة المنهجية وعلى ترتيب وقائع الماضي وفق عبارة لوسيان فيفر الشهيرة. التاريخ عملية بناء وإعادة بناء، صياغة وإعادة صياغة، كتابة وإعادة كتابة، قراءة وإعادة قراءة…لا يتم ذلك إلا عبر سلسلة من العمليات المنهجية المتداخلة: تحليل، تأويل، ونقد وتجاوز. باختصار: هدم وبناء.
«بدون ذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان» كما قال محمود درويش. المكان سلا، مدينة القراصنة وشموخ النضال. في سلا ارتدت الشخصية المغربية بُعدها الموريسكي، وورثت عنها روح الأندلس. الأندلس الفكرة وليس الرقعة كما يقول المؤرخ الإسباني إميليو غونزاليس فيرين. كل شيء في سلا يصدح بجرح التاريخ. وحده الحاضر ينزع القداسة عن الأمكنة والفضاءات، ولكأن آفة هذه البلاد أن تصدف عن تاريخها التليد وتعرض عن كل شيء يوحي بالتاريخ. ولكأن بومة منيرفا الهيغيلية لا تحلق إلا في الظلام. «…المغرب بلد يصنع التاريخ ولكن أهله لم يكتبوه بعد…» كما الراحل ابراهيم حركات. قدر هي الأمة أن تستحق الغياب لا الحضور، الحجب لا التمكين، في كل نازلة يحدث أن يلتقي فيها الماضي بالحاضر، ينتصر الماضي، بما هو حنين لما فات، وضجر مما آت، وحده الماضي سلطة مسلطة على الرقاب… الماضي المتخيل وليس الماضي الحادث…مغرب الفرص الضائعة، ضياع الأندلس، ضياع فرصة المغامرة ما وراء الأطلسي، ضياع فرصة بناء الدولة الحديثة.
من يقرأ للشاعرة السلاوية فوزية رفيق يرى الكلمات والمعاني تنساب في خيوط متشابكة مثل ضفيرة شعر يمتزج فيها الألم بالأمل، المصارحة قبل المصالحة. معاناة جيل بأكمله تربى في حضن النضال، وآمن بأن للكلمة وقعا ورجع صدى في تهذيب الجلاد. جيل آمن بأن الشعر مسكن الوجود، والفن سلاح الأقوياء، والحب انتصار للحياة ضد الموت، وللغيرية ضد الأنانية…
تمارس فوزية رفيق عملية الاستذكار النشط للماضي وترفعه إلى مستوى البناء الشعري مثل كتارسيس لتطهير الذات من مخاضات الوجود. ولأن هذا الاستذكار النشط لا يتم إلا عبر ممارسة الشك وفق ما سماه الشاعر مصطفى غلمان في تقديمه للديوان، فإن هذا الشك المستبطن هاهنا، يصير تمرينا فلسفيا يبرهن على احتمالية التغيير والاشتباك مع القضايا التي تُعذب الذات الإنسانية في علاقتها بالموجودات. ليس الشك هنا النافي للحقيقة، بل المعزز لها، والمعضد لها. وهنا تتم تقليب الأشياء إلى نقائضها. كم هي بليغة تلك المقولة التي أبدعها الجويطي حينما قال: «…المغاربة لا يحرسون الذكرى إلا إذا كانت تتكئ على سلطة قائمة…».
تتوشح قصائد الشاعرة فوزية رفيق ببعد التأنيث، بالبحث والنبش في ماضي الطفولة، وكأني بها توحي بأن الطفولة هي الجزء الذي لا يغادرنا. قديما قيل في شأن ذلك: لا يجب أن نثق في إنسان لم نر في عينه طفولة. والحكمة ضالة الطفولة ومحتدها. وحدها الطفولة تقول ما تعنيه، وتعني ما تريد، وتريد ما تريد. إن الخروج من الطفولة هو التكرار الأبدي لمسألة الخروج من الجنة.
تسطع الكتابة من حُرقة السؤال، يولد الحرف من الحرف. لا شيء يقتل الإنسان سوى الانتظار…لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو من البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات…لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يُحول الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى.


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 26/10/2021

أخبار مرتبطة

  “لا معنى لمكان دون هوية “. هكذا اختتم عبد الرحمان شكيب سيرته الروائية في رحلة امتدت عبر دروب الفضاء الضيق

  (باحثة بماستر الإعلام الجديد ، والتسويق الرقمي -جامعة ابن طفيل – القنيطرة) حدد الأستاذ عبد الإله براكسا، عميد كلية

  في إطار أنشطتها المتعلقة بضيف الشهر، تستضيف جامعة المبدعين المغاربة، الشاعر محمد بوجبيري في لقاء مفتوح حول تجربيته الشعرية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *