متاهة المكتبات

إن أول ما يستفزنا في كتاب محمد آيت حنا الموسوم بـ «مكتباتهم» الضمير المتصل بالمكتبات «هم». ذلك أن الضمائر في حالة الإضافة تفيد التعريف، غير أنه هنا يغرقنا في غموض مقصود، يجسد هوية كاتب يمزج بين الفكر والفلسفة والأدب والترجمة في اتصال وانفصال ندر أن نجده عند الأجيال الجديدة من الكتّاب. أمّا المكتبة، في التقليد الثقافي، فهي فضاء خاص بمالكيه. يشبه تماماغرفة النوم، أي أن صاحب المكتبة يعتني بالكتب، ويحرزها حرز دواخله. هذا المكنون يصعب الولوج إليه من بابه، ولكنه يحفز الرغبة في الكشف؛ كشف هذا الذي يسمى خاصا وحميما. وربما هذه المغامرة هي محفز السؤال الرئيس في كتابة هذا الكتاب؛ إذ اختار محمد آيت حنا أن يفتح أبواب مكتبات رُصدت للزمن، ووصدت، وأضحت مفاتيحها في مهاو وأعماق تقتضي الغوص وركوب الخيال بحثا عن الغائب الذي دُفن بدون شاهد في ثنايا أزمنة وعصور كثيرة.
هذا الضمير الذي يفيد التعريف، أضحى مغامرة في المجهول، وفي البحث عن هذا المجهول نتحرر من صرامة الكتابة، وبالمقابل، نجازف بالتخييل. الأعلام أصحاب المكتبات نعرفهم: أفلاطون، وابن سينا، والتوحيدي، ودريدا، وباموك، وزفزاف وغيرهم، ولكن أن نضيفهم جمعاً إلى المكتبات، فنحن نطرق أبوابا مغلقة. سيعتقد القارئ أنّ الكتاب مقاربة أدبية وفلسفية للمكتبات بعيون أصحابها، ويظن آخرُ أنه بحث في أرشيف المكتبات عند أهم المفكرين والأدباء، وقد يجد قارئ آخر  أن سؤال المكتبة يفرضه اليوم بقوة في عالم متحول، أبجدياته الجديدة تكتبها أدوات العولمة وتقنياتها الجديدة. هذه الفرضيات الممكنة، يضاعفها نشر الكتاب ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية بدار النشر توبقال التي نعرف عنها عنايتها الخاصة بتصنيفات الكتب قبل إصدارها. ويكشف فهرست الكتاب عن هويات أصحاب المكتبات عن انتقاء مقصود، يبرز جزءا من عوالم الكاتب نفسه، ذاك أن اختيار أسماء بعينها يشي بأنها قد تركت فيه أثرا حين قرأ أعمالها. وهذا الأثر توطن في خياله، ومن أجل القبض عليه يحلق باحثا عن الوصل والفصل بين أسماء كتاب يكاد يكون تصنيفهم مستحيلا: أفلاطون وابن سينا ودريدا وعبد السلام بنعبد العالي، وبورخيس وبوزفور، وباموك ومحمد زفزاف، وشوبنهاور والتوحيدي وسارتر وكورتزار.. كل هؤلاء «الهم» أصبحوا داخل المكتبة. هل نحن أمام كتابة تشبه التقليد الصحفي الثقافي الفرنسي الذي يتخذ موضوعات من قبيل: المقهى، النساء، طريقة الكتابة، المكتبة، القبلة، الزواج… عند المفكرين والكتاب والشعراء للكشف عن جوانب غير معروفة عنهم، لمنح القارئ متعة خاصة، أو أن الأمر تأسيس لنوع جديد من الكتابة يستمد ألقه من ذكاء الكاتب حين يعيد ترتيب عوالم القراء من منظور مدهش، وفيه من الغرابة ما يجعلنا نتابع هذه اللعبة إلى آخرها.
إن هذا المدخل الجديد الذي اختاره محمد آيت حنا للكتابة يبرز ولعه بالاكتشاف، وبالبحث عن اللامفكر فيه، كما أن ترحاله الدائم بين كتابة القصة، والترجمة والبحث الفلسفي أخصب عوالم الكتابة، ولن يرضى في اختياراته إلا بالبحث عن فرادة، تجعل متتبع أعماله يعجز عن تصنيفها، أو على الأقل توقع التالي منها.
أن تقرأ للكتاب والمفكرين يعني أن تخترق عوالمهم، ولا نعتقد أننا نكف عن سؤال من أين جاؤوا بهذه الأفكار والإبداعات العظيمة، من ألهمهم؟ ماذا يقرؤون؟ فالمكتبة قبل أن تكون فضاء ومجموعة من الكتب هي سؤال وجودي. ولعل المتصفح لبناء كتاب «مكتباتهم» سيلاحظ المسار الذي قطعه محمد آيت حنا، بدءا من الإهداء وصولا إلى الخاتمة. فالإهداء خصّه للجدة التي كانت مكتبة بدون كتب، والخاتمة نص قصصي لأحمد بوزفور.ألا يمكن أن يكون الأخير جوابا ضمنيا مقيدا لذاكرة الجدّة؟.
يقول أحمد بوزفور في قصته «المكتبة» التي جعلها آيت حنا بناية ملحقة بالمكتبة: « لم أكن أرتاح إلا وأنا أفتح كتاب (المكتبة) فأجد كل مرة عالما جديدا. كتاب لا يقرأ مرتين… كالموت… « (ص 138). إن هذا التوصيف للكتاب يتعالق مع بذرة الأسئلة الوجودية، ويتواشج معها، إنه العلاقة الخفية التي تجعل من كل إنسان بسيط ينطلق من عوالم الجدة العارفة بالحكايا، والمرويات، والتواريخ، والسلالة، والتطبيع والطبيعة…عوالم تتجدد، في كل مرة تقرأ فيها كتابا جديدا، فالذاكرة تتحول من مخزن إلى بوصلة. إنها أشبه بالكتاب السحري لبوزفور.
يصنع محمد آيت حنا متاهة يتأمل فيها السلالة المتفرقة شرقا وغربا. سلالة تمتلك مكتبات بدون كتب… غير أن الطفل محمد آيت حنا يوسع دائرة نسبه، بالكتب التي يكتشفها، ويضمها خلسة إلى منزل العائلة، يقول الكاتب:» الكتب التي كنت آخذها مدينة لي بأني منحتها صوتا، كتب ما كانت لتنطق يوما لو أنها ظلت في مكانها، ومازلت إلى اليوم أتعجب من العناوين التي كنت أصطادها في سياحتي ما بين منازل العائلة.» (ص 12). الكتب كائنات حية، تتحرك داخلنا، وتتكلم بأصواتنا، وتعيش فينا، ونعيش من خلالها.
يقول محمد آيت حنا في الصفحة 13: « تلك المكتبات» مكتبات الآخرين، التي أقتات عليها كطائر قمام هي المادة الخام لهذا الكتاب، نسيجها الخيال والتأويل والكثير من الأكاذيب، والقليل فقط من الحقائق «. يكشف هذا القول عن مادة الكتاب، أما التشبيه اللطيف الذي انتقاه ليصف به ذاته، فليس سوى مقدمة تهرس نزعة الاستعلاء، لتدخل القارئ في اللعبة المنسوجة بعناية كبيرة. فالكاتب لا ينتمي إلى عائلة عالمة، وبالصدفة تورط في قراءة الكتب، ودخل عالم المكتبات. وبدأ يجمع الصامت منها كي يكلمه ويتواصل من خلاله مع العالم، أي أن يجدده ويحيا بواسطته كما الكتاب السحري تماما. أما ضمير «هم» الوارد في العنوان، فينكشف ضميرا للحضور، لأن هؤلاء الكتاب أصبحوا جزءا من العائلة، من السلالة الكبيرة التي نحن إلى معرفتها… فلا نملك سبيلا إليها إلا بالبحث عن دوارسها، وبقايا آثارها.
يعري لنا الكاتب الأمكنة التي يتواجد فيها والمجالات التي يحيا فيها، والمسافات التي يعبرها في ترحاله بين الأدب والفلسفة، والموسيقا والسينما، والتصوير، والأغاني والترجمة. إنه لا يقيم خيمته في واحدة منها، بقدر ما يكون الهلامي حاملها كما الكتاب تماما، والكتاب الذين يجرهم إلى مأدبته التي يتغذى منها، ويعيدها إلينا وليمة سردية، وسحرية.
برع» آيت حنا» في خلط العوالم الفلسفية والأدبية وسوّاها في خلاطة الغريب والعجيب. وطرزها في جمل قصيرة، ولغة شفافة تزاوج بين الكشف والحجب. فهو كلما كشف لنا مكتبة إلا وحجبها بذكاء وكأنه يضيف الممنوع إلى الممنوع، أو بالأحرى يصنع خدعته أمامنا، ويتحدانا بكشفها. وهي طريقة ما انفك التوحيدي وعبد الفتاح كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي وبورخيس يمارسونها في التعبير. هو أسلوب تعمد الكاتب أن يمحو به المسافات القسرية التي يضعها النقد الأكاديمي. فالكتاب لا يقرأ مرة واحدة، والكتاب الحقيقيون لا يمكن أن نقول إننا قرأنا لهم، ففعل قراءتهم مسند إلى الحاضر والمستقبل، إنهم كتاب يقرؤون. وبهذا المعنى ليست المكتبة سوى هذه القراءة المستمرة التي تحيا من خلالنا، وتدفعنا إلى تأمل هذا الجديد المنفلت، بذاك القديم الساحر والفاتن.
إن صاحب « مكتباتهم» يبحث عن الغائب. ويستثمر كل الاستعارات المحمولة على الشعر، والسينما، والرسم والحكاية والأسطورة، والكتب المقدسة وغيرها. لكن ما الذي يجعل الكتاب يحجب المكتبات، وما الذي يجعل انتقاء وانتخاب الكتاب الأفضل سبيلا لسلامة المكتبات ؟
يجيبنا الكاتب في توصيف رائق في الصفحة 19: « لنجزم دون تحيز أن الكتاب سيكون كتاب أدب ! أي الأعمال الأدبية يمكن أن يكون كتاب الكتب ؟ سيزعم بعض الهراطقة الذين يتردد على لسانهم صدى الكاتب الأرجنتيني بورخيس أن كل كتاب هو نفسه الكتب جميعها..» لنتعكز على هذا الكتاب يمكن جمعهم في ضيف واحد ؟ لنتخيل أننا قرأنا الكتاب دون فهرسة ولا عناوين، فهل ستحصل على الجامع في المختلف ؟ أم أن هذا الجامع هو المختلف عينه. لنعد إلى قصة المكتبة لبوزفور وما وجده بعد طرده من مكتبة المدرسة. وجد الواقع مكتبة مثلما كشف الطفل المكتبة في ذاكرة جدته. في هذه اللعبة المسلية والمبنية بحربائية بديعة، يظهر لنا الكاتب في مكتبته، ويختفي في مكتبات أخرى، حتى يخال القارئ أنه أمام متاهة الفأر والأبواب المفتوحة، وهي لعبة قمار عاشها كل واحد منا في طفولته. ألا يشكل هذا الكتاب مقامرة حقيقية للتخييل ؟ حتى وإن كان المقامر يعد العدة للربح ولا ينتظر سوى خسارة القارئ. هذا القارئ الذي ضيعه المقامر في متاهته انطلاقا من تصوير غريب عن نهاية القراء بكثرة الكتاب : « ماذا لو قرر الجميع أن يصيروا كتابا؟ سيتضاءل بالطبع عدد القراء إلى أن ينعدم، فالكتاب لا يمكن التعويل عليهم في الاضطلاع بدور القراء، هم في الغالب الأعم قراء سيئون، وغالبا ما لا يقرؤون إلا أنفسهم» (ص25).
إذا افترضنا ذلك سيكون الكتاب الخالد هو المرغوب فيه، أو هو الجسر الذي يفك غموض المكتبة وممتلكيها، وهو بذلك سيكون مقدسا حتى وإن طويناه في الزمن، ودفناه مع الكتب الأخرى. فلا غرو إذن أن يكون كتاب « مكتباتهم» متاهة. كلما خرجنا منها دخلنا إلى أخرى دون معرفة الأرض التي تقف عليها، وكأننا نسير بين الضيف وظله بين بنعبد العالي ومكتبته مثلا، بين الحياة والموت…وفي هذه الصيغة نتيه في الحجب ونجعله نبراسا يقود العين إلى حتفها وانطفائها، وتكون المكتبة بروازا نضع صورة صاحبها فيه.
يشكل كتاب «مكتباتهم» إضافة إلى «المكتبة» المغربية والعربية، ذلك أنه ينهج طريقة مختلفة في الكتابة، وغرابة في اختيار الموضوع، سميناه متاهة، تتعب القارئ في البحث عن خرائطها، ولكنها تمنحه لذّة الاكتشاف، وتنبهه إلى سحر عوالم الكتابة، وتحرره من مسلماته في المعرفة. يطالب الكاتب قارئه بوضع الإصبع في حبل مقامر لا يهمه من اللعبة كلها، سوى تحريرنا من وهم الكتابة المنتهية… درس «مكتباتهم» مفتوح على واقع القراءة، بوصفها فعلا لا متناهيا ومدهشا…

هامش
محمد آيت حنا : مكتباتهم، دار توبقال، البيضاء.

 

 


الكاتب : حسن إغلان

  

بتاريخ : 01/04/2022