مجانين

من أين أتوا؟!
لا أحد يملك العِلمَ اليقين، هناك من ظنَّ أنهم وصلوا على متن قطار منتصف الليل، فيما رجَّح البعضُ أن مدينةً قريبةً صدَّرتهم على متن حافلة، وخمَّن آخرون أنهم فروا من مستشفى للأمراض العقلية..
تعددت التخمينات، وتناسلت الظنون، لكن الجميعَ أجمع على أن وراء مجيء المجانين عقلاء، فلا يمكن لحمقى أن يحلوا، بمحض إرادتهم، بالمدينة مجتمعين منتظمين، وينزلوا في المكان نفسِه أجمعين.. لكن ألا يملك المجنونُ مثقالَ ذرةٍ من الرشد؟! وألا يمكنُ للعاقل أن يسبح برهةً في يمِّ الجنون؟!
المجانينُ أصناف، والعقلاءُ أنواع، ويمكن للغيِّ أن يمتزجَ بالرشد، وتجد الأرعنَ جنبا إلى جنبٍ رفقةَ الفهيم، وهذا ما حدث مع المجانين، الذين احتلوا المدينة، وسكانها الأصليين، فسرعان ما تجاوز المحليون صدمةَ المباغتة، وانضموا إلى الغرباء، احتضنوهم، فألبسوهم ثيابا جديدة، وأطعموهم طعاما محترما، وسقوهم شرابا لائقا.. توحَّد العقلاءُ والمجانين، والتحموا، فانتفت الفوارق، وأُزيحت الحواجز، ثم ارتدت المدينةُ ألوانَ الجنون..
وما إن ذاع الخبر، وغطى الأحياءَ كلَّها، حتى التحق العشاقُ صحبةَ المعشوقات، ووصل هواةُ القراءةِ حاملين الكتب، وحجَّ الرياضيون وعلى ظهورهم الوسائل، والأدوات الرياضية، وجاء الموسيقيون، ومعهم آلاتهم، وحلَّ الرسامون يحملون الفُرش، والألوانَ المختلفة، ووصل الشبانُ على متن فتوتهم، والأطفالُ راكبين المرح، والشيوخُ يتكئون على عصواتِ الوهن، فامتزجت الجموع، وتوحدت الشوارعُ تحت لواء الجنون..
ظلت المدينةُ دائما قِبلةً للمجانين، يأتونها في الفصولِ كلّها، ومن الاتجاهات جمِيعها، ولعلَّ موقعَها قرب، ووسط المدن الكبرى، ساعد كثيرا على تدفق المجانين عليها، لكن السابقين كانوا يأتون فُرادى، بينما حلَّ الحاليون مجتمعين، ومنظَّمين، ثم إنهم مختلفون، لا يصرخون، وقلَّما يتكلمون، ليسوا عدوانيين، ولا غلاظا، بل مُسالمين، وأرقاء، ولا يكفون عن توزيع البسمات.. وبسبب ذلك كلِّه تعاطف معهم السكان، ورحبوا بهم، وأكرموهم، وأحاطوهم برعايةٍ خاصة، لم يسبقْ لأخبلَ من الخبلاء الوافدين على المدينة أن أُحيط بها. فالمعروفُ عن أهلِ المدينة أنهم يتذمرون دائما، ويغضبون من تدفق المجانين على حاضرتهم، إلى درجة أنهم يحتجون كلما وصل مجنونٌ جديدٌ معتبرين ذلك إهانةً لهم. وظلَّ الحمقى الوافدون على المدينة عرضةً للجوع، والعطش..
تغيرت المدينة تماما، بدَّل الناسُ عاداتِهم، وتصالحوا مع ذواتهم، ومع الآخرين، اعتنقوا الحبَّ بكل مذاهبه، وخلقوا أعيادا جديدة، وأغلقوا دفاترَ مناسبات تعودوا عليها..
هل كانت المدينة في حاجة ماسة إلى جرعة جنون؟!
ساد الغناء، وأينعتْ أشجارُ العشق، وأرسلتِ الظلالَ، وتدفق ماءُ السلام، وسقى أحجارَ َالقلوب، فصارتْ بساتينَ تفوح حُبا، وترقص على أنغام الأمان.
المجانينُ الجدد أصبحوا جزءا من سكانِ المدينة، دخلوا المستشفيات، وتلقوا العنايةَ الكاملة، وأخذوا الدواءَ الناجع، وتشافوا من المرض، وبُنيتْ لهم البيوتُ اللائقة، وسكنوها، وأحدثتْ لهم مناصب شغل مناسبة، واشتغلوا..
انقشعتْ سحبُ العلاقات، وتساوى الناس أجمعين، وأخذت الأقلام تكتب تاريخا آخر للمدينة، والمبدعون، كلٌّ من موقعه، يرسمون لها ميلادا جديدا.. عادت اللقالقُ التي هاجرت من قبل، وهطل المطر الذي انقطع طويلا، وجرت السيولُ التي جفت خلال السنوات العجاف، وصفا فؤادُ الحاضرة، واخضرت فصولها، وازدهرتِ المدارسُ، وساد النجاحُ، ونشطت الأعمال، وكثرت الأرباح، وامتلأت الملاعبُ، وأبدعت المسارحُ، وتألقت قاعاتُ السينما، وصدحتِ الحناجرُ بأجمل الأغاني، وطغى صوتُ الحب، وغطى الحدائقَ اليانعة، والشوارعَ النظيفة، والمياهَ الجارية، والبيوتَ الدافئة..
واحتفالا بالحب الذي جرى، والنجاحات التي توالت، والجمال الذي عاد، وزاد، والقبح الذي تقهقر، ورحل، والأمان الذي امتدَّ، وعلا، والخوف الذي تولى، وغاب .. نظمت المدينة مهرجان الفرح، فخرج إليه السكان عن بكرة أبيهم، وغنى فيه المغنون، ورقص الراقصون، وفاضت قرائحُ الشعراء، وسالتْ عذبةً قصصُ القصاصين، وعرض الرسامون أروعَ اللوحات، ورسم الرياضيون أجملَ اللقطات.. أما المجانين الذين أصروا على الاحتفاظ باللقب نفسه رغم شفائهم، فقد شاركوا أيضا، وأبانوا عن مواهبَ في شتى المجالات..
امتدَّ المهرجانُ ثلاثةَ أيام، فأثمر قصصَ حب جديدة، واحتضن أعراسا فريدة، وشهد ميلاد مبدعين متشابهين ومختلفين، وتألقت في وجه الحاضرة إبداعات، وحلَّقت إنجازات..
توالت الأيام، وتغيرت الأحوال، لكن المجانين، ظلوا مجانين، اللقبُ نفسُه يُلازمهم، والحي الذي أُسكنوا فيه حمل اسمهم، وأبناؤهم يُدعوْن أبناء المجانين.. صحيح أنهم متساوون مع السكان الأصليين في حقوق وواجبات، إلا أن صفة الجنون ظلت ملتصقةً بهم، كما أنهم ظلوا لا يتزوجون إلا فيما بينهم.. و تتابعت السنواتُ فاتضحت الفوارقُ بينهم وبين المحليين، ومع مرور الوقت، تناسلت، وتجلت أكثر في السلوكات، والعادات، والأمزجة.. مما ساهم في تقوقع الغرباء حول أنفسهم، وابتعاد الأصليين عنهم..
وذات صباحٍ غزير بالأسئلة، قرر المجانينُ مغادرةَ المدينة، أفرغوا المنازل، ولم يلتحقوا بالعمل، وخلعوا البذل، ولبسوا ثيابَهم القديمة، ولم يتناولوا الدواء..
تركوا البيوت، والأفرشة، والأغطية، والملابس، وخرجوا في صفوف غاية في النظام مصممين على الرحيل، لكن السكان الأصليين اعترضوا سبيلهم، ومنعوهم من المغادرة..
اختلفوا، تواجهوا، تناقشوا، غضبوا، هدأوا، صمتوا، تفرقوا، اجتمعوا، تعبوا، استراحوا، تعاتبوا، بكوا، وضحكوا، فتعانقوا، ثم تبادلوا باقات الورود.. وعادت المياه إلى مجاريها، وأخذت تجري حُبا وألفة..
عاد نشاط المدينة، وتألقت من جديد، وعاشت فصولا لذيذة على ضفة الرشد تارة، وعلى ضفة الجنون تارة أخرى، وتواصلت الحياةُ لابسة ألوانا مختلفة، وظل الماضي حاضرا، وأبتْ بعضُ الجراح أن تندملَ رغم الطبيب، والدواء، والورد، والكلام الجميل..
وفي غفلةٍ من الجميع، داهم مجانينُ آخرون المدينة، لم يدر أحدٌ من أين هاجروا، وصلوا ليلا مدججين بأسئلةٍ عريضة، وصمت صلب، ومجردين من الأسماء، والبصمات، والعناوين. حطوا الرحال بساحة كبرى وسط المدينة، وجلسوا دون طعام، ولا شراب، ولا غطاء.. شكلت المدينةُ وفدا للحوار معهم، لكنهم ظلوا صامتين، ثم استسلموا لنوم طويل على عشب الساحة الفسيحة، وعاد الوفدُ خاوي الوفاض، لتصطدم الحاضرةُ بمشكلٍ جديد يعكر صفوَ حياتها..
تضايق السكان الأصليون من احتلال ساحة مدينتهم الكبرى من طرف مجانين، لا يتكلمون، ويضربون عن الطعام، والشراب.. فأزعجهم الأمر كثيرا، وباتوا يبحثون عن حلٍّ للأزمة، وبعد تفكيرٍ طويل، وأخذٍ ورَدٍّ، فكروا في تدخلِ المجانين السابقين لحلِّ المشكل، وفعلا تمَّ اقتراحُ الفكرة، وحُظيت بالقبول من طرف الجميع..
دخل المجانينُ السابقون في حوار طويل مع اللاحقين، فأقنعوهم بإنهاء صمتهم، وإضرابهم عن الطعام، والشراب..
طوتِ المدنيةُ صفحة، وفتحتْ أخرى، وسكن المجانينُ جميعهم الحيَّ نفسَه، وتحابوا، واشتغلوا، واندمجوا مع سائر السكان..
تتابعت الفصول، وسادت الطمأنينةُ المدينةَ كلَّها، وصمتتِ الأجواءُ مرة، ورفعتْ أصواتَها مرات، واظب الناس على العمل، واحتفلوا بالأعياد، وخلَّدوا الذكريات، واستمرت الحياةُ بين كرٍّ وفرٍّ، ومدٍّ وجزرٍ، وتواصلتِ الأغاني، وأبدع المبدعون..
انغمس الناسُ في شؤونهم، وواصلتْ عجلاتُ الأيام الدوران، وحلَّ عيدٌ من الأعياد، فإذا بالمجانين ينصبون خيامَ الفرح، وتُطلق نساؤهم زغاريدَ البهجة، فتُفتح صفحاتُ الاحتفال، وينضمُّ المبدعون إلى المجانين، فيختلطون جميعا، ويسيرون طويلا في دروب الجنون الأبيض، والإبداع الأزرق، ثم يُثمر المسيرُ الماردُ لوحاتٍ مجنونة، ونصوصا متمردة، وحدائقَ استفهامٍ كثيرة، خلقتِ المدينةُ مناسباتِ انشراحٍ مديدة، وطال العيد.. وفي صباحٍ طافحٍ بالغيوم، استيقظتِ الحاضرةُ، ولم تجدْ أحدا من المجانين..


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 20/10/2023