محمد الأشعري … ثعالبه تظهر وتختفي

في نصوص محمد الأشعري السردية بحة احتجاجية، يتوارى فيها الموروث الثقافي والنضالي، ويندغم ذلك بالموقف السياسي و الحزبي و الأيديولوجي . وفي هذا الصدد، نجد نصوص محمد الأشعري عبارة عن صوت جهير؛ تارة يركب صهوة البحث عن الانتماء و التأصيل المفقودين، وتارة يسبح في ملكوت الرفض، و إعادة الانتشار العادل للقيم والمبادئ التي راودته عن نفسه، وهو في مَيْعة الصبا .
تاريخيا، يغدو اليسار المغربي مرحلة حاسمة في الانتماء الأيديولوجي للفكر والإبداع ، وذلك راجع إلى المد الشيوعي الذي أوجد أرضية خصبة لأحزاب حديثة العهد أن تظهر في الساحة الثقافية . كما أن إسقاط حكومات مغربية أجج الصراع السياسي نحو السيطرة والهيمنة الأيديولوجية على المواطنين المغاربة ، ومن ثم أعقبتها تصفية حسابات عالقة بين أطراف الأزمة القائمة ، وهذا ما غير من مواقف المناضلين البارزين في الساحة الثقافية المغربية، وفي مقدمتهم إبراهام السرفاتي و عبد اللطيف اللعبي ، وغيرهم كثير .
في هذا اليم المتلاطمة أمواجه عنَّت المجموعة القصصية «يوم صعب « لمحمد الأشعري تحمل البوح و الاحتجاج ، بوح للبحر المترامي في الأفق القرمزي الفاتن، يقول الكاتب :
« تسلمنا المنعرجات بعضها البعض، يلوح البحر في أفق، ثم ينسحب متربصا بنا في منعطف لا نتوقعه « . فمن خلال رموز وإشارات نقرأ القصة المطولة « يوم صعب « للأشعري، ذاك المنعطف الخطير ، والحساسية الأيديولوجية التي مرت منها الثقافة المغربية محملة بترسبات الصراع والمطاحنات السياسية المليئة بالمتناقضات . يقول الأشعري في يوم صعب : « غسلنا الغرفتين من ماء البئر ، وفرشنا أغطيتنا. أحمد وزوجته في الغرفة المطلة على الباحة الخارجية، وأنا في الغرفة الأخرى المطلة على الشارع … « على هذا الإيقاع نستقبل الحوض الدلالي الذي يحمله هذا السرد المصور ، رغم أنف المجتمع المغربي الذي عاش ويعيش على النمط المحافظ زهاء عقود من الزمن .
فالبحة الإحتجاجية، لا تكمن في توصيف العلاقات الاجتماعية والسوسيوثقافية التي كانت سائدة بين الشلة المثقفة اليسارية في ما بينها وذات الرؤية العمودية ، بماهي السبب الرئيس في الفشل و الاندحار السياسي و الأيديولوجي و الثقافي أيضا، وإنما في السطو الممنهج لإبراز المتناقضات الاجتماعية رغبة في شق الطريق وتعبيدها نحو النصر ، وإبراز معالم الثورة المجتمعية التي سيقودها المثقف الآتي من سحيق زمن التيه و العبث . يقول الأشعري : « … البيت الصغير في سطح عمارة بحي القبيبات ، مظاهرات السويقة، سوق الغزل، شارع محمد الخامس، يعقوب المنصور، دوار المعاضيض … « .
في المتن الحكائي للقصة المطولة « يوم صعب «، تتشكل معالم الأزمة التي مر منها الرفاق، وكان السجن يتعقب الخلية، كما يتعقب الأسد فريسته، مما شكل لحظات خوف ينتاب مفاصل الحكاية، ومدى درجة الحساسية التي تتفجر بين الفينة والأخرى على طول القصة.
يقول الأشعري : « كنت قد لبثت في تلك المدينة الأطلسية يومين متتاليين ينهشني البرد ، والضجر ، لأن لحسن قال لي انتظر هنا في مقهى المحطة . أنا الذي سآخذك إلى حيث ينبغي أن نذهب جميعا … أشرب حريرة في الصباح … وأخرى في المساء « . إن البحث عن الخلاص من مثبطات تحول دون تحقق الأحلام سمت هيمنة في الحكاية ، وهي ما أضفت عالما من الانتماء إلى المخيال الأدبي و الفلسفي ، فالإيمان بالدافع الفردي هو الذي يعطي حساسية رومانسية تقبل بالحلول الفردية دون سواها ، وهذه سمة تشكلت معالمها مع مطلع فجر السبعينيات في القصة المغربية . فالجدل الفلسفي المتمثل في حمل أعباء التغيير، أو نهوض بعد سقوط كان مدويا، نذهب من خلاله إلى الأسطورة ، التي تتشكل وفق تنامي الأحداث السردية . فالطائر فينيق أو بروميثيوس يتسربلان نصيا في « يوم صعب « ، فالبعث من الرماد أو حياة بعد موت أخرجها الأشعري إخراجا فنيا ، من خلال تأثيث الأحداث بديكورات تشي الحساسية المفرطة التي ركبها الإبداع المغربي ، الحامل للواء التغيير .
رحلة البوح في آفاق البحر؛ شمال المغرب لكل من السارد و أحمد وسعاد ؛ تتشكل من خلال تلاوين أعطاب تجربة سياسية مرت في تاريخ الدولة المغربية، وما لحقتها من محاكمات و اعتقالات وغياهبَ سجون ، يقول الأشعري : « وستأتي أيام السجن الطويلة، فألتقي برجال خنيفرة ، وكلميم، وفكيك، ورجال يتعثرون في لكنتهم … « .
إن هذا المشروع الفكري تبلور في عدة محطات ومنعطفات، انسلت منهما خيوط أحزاب مفبركة للتشويش و تحريف المسار النضالي، والتيه في مزارات حلم لم يبق منه إلا السراب في فلاة حمئة وصاهدة ، ووهم احتفظ به في الذاكرة التاريخية للمغاربة .
ففي المتخيل الفلسفي الذي متح منه محمد الأشعري قصته المطولة « يوم صعب « الدور الذي لعبه سارق النار برميثيوس ، صاحب النظر الثاقب و التنبؤات بأحوال البشر و مصائرهم، إنها واحدة من المزايا التي يعتمدها الكاتب للتعبير عن تجربته الإبداعية، حيث ينقلنا السارد من عوالم الأسطورة إلى عوالم الفن، مؤثثا ذلك بمقومات وعناصرَ الحكي من شخوص و زمان ومكان و رؤية سردية . ومن جانب آخر عندما يحمل المثقف السياسي لواء التغيير ، بما هو المثقف العضوي الغرامشي الرامي إلى تغيير المجتمع لتلميع صورته الباهتة ، والمضي به قدما نحو بر الأمان .
إن هذه الموجة السوسيو ثقافية، في السبعينيات من القرن الماضي، اجتاحت كل غصون شجرة المجتمع المغربي، بما في ذلك الشعر و المسرح والرواية ، وفي مقدمتهم محمد عزالدين التازي من خلال روايته « المباءة « و عبد الكريم برشيد في « ابن الرومي في مدن الصفيح» و غيرهما كثير . وعلى هذا الدرب سار جواد مديدش في روايتها الموسومة « الغرفة السوداء « ، والتي ترجمها إلى العربية عبد الرحيم حزل.
يبقى الأدب لعبة سياسية على مشارف التيه، وبعد كل هذه السيرورة النضالية، التي كللت بمسارات ناجحة ، سيطل علينا محمد الأشعري بتلاوين إبداعية جديدة في صنف الرواية، وقد قرأت له « جنوب الروح « سيرة تأريخية لبومندرة ، إلى جانب « القوس و الفراشة « و « ثلاث ليال « . فرسان الكلمة الحكَّاءة لواقع حقيقي أو متخيل، ليغدو في الأخير الروائي المعتق بماء القصيد .


الكاتب : ذ . رشيد سكري

  

بتاريخ : 07/09/2023