محمد باهي في ذكراه السادسة والعشرين

العودة المتواصلة لصحافي بارع واستثنائي

 

تمر السنوات تلو السنوات منذ الرابع من يونيو 1996، ذلك اليوم الذي فقدنا فيه أخانا المرحوم محمد باهي حرمة، أحد ألمع الصحافيين العرب والمغاربة، ولايزال اسمه حاضرا، وصيته ممتدا في المكان والزمان، والأجمل، أن تراثه الإعلامي والفكري المكتوب أصبح يجد طريقه إلى النشر بفضل أصدقائه الخلص وفي مقدمتهم المناضل الأخ مبارك بودرقة (عباس).
وهكذا فبعد صدور كتابه رسائل باريس في خمسة أجزاء، هاهو يصدر جزءا سادسا متضمنا كتابات الفقيد في بدايات ستينيات القرن العشرين، في صحيفة التحرير.
مازلت أذكر، ونحن في باريس سنة 1996، كيف عشنا هول الفجيعة آنذاك، لا أحد كان قادرا على تصديق الخبر وتقبل أن باهي ذهب إلى ذمة الله ولن يعود، وأن آخر العرب، كما وصفته مجلة »جون افريك« ترجل أخيرا، وأن علينا أن نتقبل قضاء الله وقدره، ومن ثم، وبينما نظمت الذكرى الأربعون لفقيدنا في الدار البيضاء بحضور أبرز الشخصيات الوطنية المغربية والمغاربية والعربية، تحلقنا حول ذكره وذكراه في حفل تأبيني تكريمي آخر في معهد العالم العربي بباريس.
كان الأصدقاء والصديقات البارسيون جميعا هناك ورأيت حشدا من الكتاب والأدباء والإعلاميين العرب، وبالطبع كان هناك أصدقاء باهي الأقربون إلى أفقه وحياته بينهم بالخصوص الإخوة بودرقة (عباس)، مولاي حفيظ امازيغ ورضوان الرغاي.. وآخرون.
ومباشرة بعد الحفل التأبيني انبثقت فكرة تأسيس (حلقة أصدقاء محمد باهي) قبل أن تتجسد عمليا في بيت أخينا عباس في الضاحية الباريسية، وهكذا، انطلقت الأفكار والاقتراحات حول ضرورة التحري حول أسباب وفاة الأخ باهي، وتشكلت لجنة من بعض أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للنظر في كافة المعطيات التي أحاطت بحادثة الوفاة المؤسفة، وكان المفكر محمد عابد الجابري أكثر أصدقاء الراحل حرصا على هذا التقصي.
كما انطلقت فكرة تأسيس مؤسسة تحمل اسم الفقيد محمد باهي في المغرب، وجرى عقد عدة لقاءات تحضيرية في بيت أخينا عبد الرحمان اليوسفي حضرها إلى جانب سي عبد الرحمان كل من محمد عابد الجابري، الفقيه البصري، محمد الصبري (المحامي) حسن نجمي وعبد الكبير طبيح، وأنجز التصور، وتم إعداد النظام الأساسي للمؤسسة طبقا لقانون الحريات العامة وقانون الجمعيات في المغرب، لكن لسبب غامض لم تستمر الفكرة، ولم تر النور في تلك الظروف والملابسات.
وجاءت مفاجأة سارة من الكاتب والروائي العربي الكبير عبد الرحمان منيف، الصديق الأثير للمرحوم محمد باهي، وشبيهه في الرؤية والهوية والمنفى والمسار ، وذلك حين أصدر كتابا تكريميا بعنوان «عروة الزمان الباهي»، في إشارة أرادها صوب المغاربة، والمغاربيين جميعا، قراء ومثقفين وأدباء ومناضلين، وبالخصوص في اتجاه رفاق باهي في المغرب. كما توالت لقاءات حلقة أصدقاء محمد باهي السنوية بانتظام في باريس كاني تردد عليها أصدقاء الراحل وعدد من الكتاب والإعلاميون والمفكرون العرب، وذلك قبل أن يتم التفكير في أول لقاء لهذه الحلقة في المغرب احتضنته مدينة مراكش سنة 2004 في موضوع ذي أولوية (محمد باهي، وقضية الصحراء المغربية) وصدرت أشغالها في كتاب خاص وحضر اللقاء عدد من المثقفين والفاعلين السياسيين كان بينهم قادة جبهة البوليساريو السابقين.
وبعد سنتين من ندوة مراكش، احتضنت مدينة مكناس الندوة الوطنية الثانية بمناسبة الذكرى العشرة لرحيل أخينا محمد باهي (9 و10 يونيو 2006)، وذلك في موضوع الحداثة وتحرير الانسان) والتي صدرت أشغالها أيضا في كتاب.
وفي تلك الفترة أصدرت حلقة أصدقاء باهي كتاب الراحل حول الصحراء المغربية الجزء الأول في موسوعة كان يحلم بإنجازها، ولكن الموت للأسف – لم يمهله وطبعا، كما قال الكاتب المغربي الكبير المرحوم عبد الجبار السحيمي بأن الحالم يموت ولا يموت الحلم«، هذه العبارة الأثيرة لدى أخينا عباس بودرقة التي اختارتها – كما نعلم – عنوانا فرعيا على أغلفة مؤلفات محمد باهي حرمة رحمه الله.
وإمعانا في روح الوفاء، اختيرت الذكرى العشرون لرحيل باهي لكي تصدر دفعة واحدة الأجزاء الخمسة من كتاب رسائل باريس، الكتاب الفذ الثري، الذي جمع كتابات باهي في صحيفتي »المحرر« و»الاتحاد الاشتراكي« فمن زاويته الأسبوعية المطولة (رسالة باريس)، والتي كانت زاوية منها تشكل حدثا إعلاميا وسياسيا وثقافيا. حقا، إنه كتاب عبارة عن ورشة إعلامية لا يحق لأي إعلامي أو سياسي أو طالب صحافي مغاربي ألا يقرأه!
هذه دون أن أنسى مبادرة مجلس الجالية المغربية في الخارج برئاسة الأستاذ ادريس اليزمي بالعمل على نشر كتاب محمد باهي حول مدينة باريس، والذي كان في الأصل سلسلة تحريات قام بها باهي رحمه الله وكتبها ونشرها في مجلة (اليوم السابع) الباريسية التي كان يشرف على إصدارها الإعلامي الفلسطيني الراحل بلال الحسن إلى جانب طاقم صحفي متمرس كان من بين افراده محمد باهي، جوزيف مساحة، بشير البكر، وأسهم في المجلة كتاب بارزون من أمثال محمود درويش، سميح القاسم، محمد عابد الجابري، حسن حنفي.
وهاهو يصدر الآن الجزء السادس من الملحمة الإعلامية لأخينا محمد باهي في ذكرى رحيله، ربما لأول مرة سيقرأ معظم القراء من الأجيال الجديدة جزءا من تراث الصحافة الوطنية المكتوبة في المغرب، خصوصا صحيفة »التحرير« التي كان يديرها الفقيه محمد البصري، ويرأس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي، رحمهمها الله.
وتكلف بجمع هذه المقالات الدكتور محمد الزمي، وأعدها للنشر الاخ مبارك بودرقة سيرا على عادته المحمودة. وعلمت أن الجزأين السابع والثامن في طريقهما إلى النشر حتى يتمكن القراء الجدد من الاطلاع على ميراث إعلامي غني وظل منسيا تحت غبار السنين، ويعود إلى نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات الماضية.
إنها العودة المتواصلة لصحافي كبير ولمناضل مغربي مغاربي عربي استثنائي على روحه الرحمة.


الكاتب : عبد الرحيم الجلدي

  

بتاريخ : 04/06/2022