محمد باهي كان أكثر انفتاحا على العالم

قبل سنوات، خطف الموت محمد باهي ليحرمني من صداقته..
تعرفت على باهي عن طريق مروش، خلال فترة كنا نتقاسم، كل من موقعه، التنديد بأوهام عدد من المثقفين الذين كان بعضهم يعمل ببراءة والبعض الآخر عن وعي، على بناء آلة السلطة على حساب الطبقات الشعبية، سندهم في ذلك المثل الأعلى للثورة من خلال الدولة، فيما كان التدبير الذاتي موجها لخطواتنا، محمولين في ذلك على بساط الانتصارات الأولى ضد الاستعمار.
بالنسبة للنخب التي التبس عليها الأمر، فاختلط لديها الجديد بالأجنبي والقديم بالوطني، كنا نؤكد بصوت عال على رغبتنا في إنهاء الاستعمار الأجنبي. لا لنحل محله، لكن قصد السعي إلى إحداث إصلاحات جذرية وعميقة داخل مجتمعاتنا، والتخلص نهائيا من أعباء الماضي.
أخفقنا في إنجاز هذه المهمة، ليس بسبب الضغوط الخارجية إنما بسبب الإكراهات الداخلية، التي تجلت في الانقلاب العسكري ليوم 19 يونيو 1965. وخلال تلك الفترة، كان الباهي يقطن بالجزائر العاصمة، حيث جاءني برفقة محمد اليازغي ليعرض علي مساعدته للإفلات والحيلولة دون اعتقالي من طرف الشرطة، وباقتراحه هذا كان يعرض نفسه للعديد من المخاطر غير محسوبة العواقب، لكونه كان يتمتع بوضع لاجئ سياسي، لم أنس أبدا مبادرته تلك، علي الرغم من أنني لم أتمكن من الاستجابة لها بسبب اعتقالي في 9 غشت 1965 .
إذا حاولنا التوقف باختصار عند مختلف التحولات السياسية الممتدة لفترة تزيد عن نصف قرن، يمكن القول، دون الابتعاء عن الحقيقة، إن الحركات الوطنية المغاربية التي هزمت الاستعمار فشلت في الوفاء بوعدها القاضي بتحرير شعوبها. وداخلها فشلت أيضا المنظمات التي حملت الهم الاجتماعي وأقصت الطبقات الشعبية من المشهد السياسي، مما فسح المجال للانجرافات والانزلاقات الدامية أحيانا، كما كان الحال بالنسبة للجزائر.
كانت آخر مرة التقيت فيها بباهي، قبل وقت قليل من وفاته، والتي كانت غير متوقعة وقاسية، كان شغله الشاغل وهمه الوحيد يومها هو فك معادلة تجديد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وإعادة ارتباطه بمصدر إلهامه الأصلي في الوقت نفسه.
لم يكن الباهي مناضلا سياسيا فقط، بل كان رجلا صاحب ثقافة كبيرة، وكانت له مكانة خاصة بفضل صفات المثقف التي كان يتميز بها على مستوى العالم العربي. كانت مرافقته للكتب وشغفه بها يعبر عن حاجة حيوية وعميقة لديه، وكان ذلك يشكل وسيلة للتواصل مع الآخرين، ونوعا من الملاذ النفسي لديه.
موريتاني الأصل، اختار باهي الجنسية المغربية، وهو الذي عانى من تجارب وامتحانات كثيرة في حياته، وذاق مرارة المنفى وتغلب على سوء الفهم حتى من داخل معسكره. وأهم ما يمكن الاحتفاظ به، عن باهي، هو حسه الإنساني، إذ إنه وعلى الرغم من اختلافاتنا أو حتى خلافاتنا، التقينا في بلد واحد وحصل التفاهم بيننا، مادام أن رؤية مغرب كبير موحد كانت الأفق الذي سكن دائما آمالنا وهواجسنا.
كان المرحوم باهي يتميز علينا بخاصية أساسية، فقد كان الأكثر انفتاحا على العالم، لم يكن منفتحا فقط على المغرب الكبير، بل على كل ماهو غير إسلامي وبطريقة كانت تفاجئنا، وأريد القول كذلك، إن المغرب الكبير بالنسبة له لم يكن مجموعة دول بل مجتمعا ثقافيا له أسس قوية، والتي كانت تتجاوز حدود كل بلد.
ومن بين المهام التي على أصدقائه تحقيقها، وبغض النظر عن الصراعات الخفية أو العلنية التي تعرفها المنطقة، يجب أن تتواصل هذه الثقافة المغاربية في ما بينها، وأن تتخطى الحدود التي تعرفها المنطقة.
يمكن أن أقول إنني أتقاسم مع المرحوم باهي عددا من الأفكار، ومما توصلنا إليه على الخصوص، كحصيلة لنقاشاتنا هو أن نخب هذا المغرب الكبير، كانت محدودة الآفاق، اختزلتها في إرادتها لطرد الاستعمار. في ما كانت بلاد المغارب تستبطن عدة إيقاعات في أعماقها، عجزت قياداتها في فهمها، على الرغم من كون هذه الإيقاعات مكونة لشخصيتها الحقيقية.
انطلقت الحركات الوطنية في البلاد المغاربية خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، مع استثناءات قليلة، وفي الخمسينيات، اتجهت كلها نحو القطيعة مع الاستعمار، وفي السبعينيات اندلعت في هذه المنطقة سلسلة من الانتفاضات في المدن.
ومازلت أتذكر النقاشات التي كانت تدور بين الجابري وباهي، والتي كان يركز فيها باهي على الفرق بين المغرب والدول الأخرى في الشمال الإفريقي.
هذه النقاشات تمحورت حول الإسلام، وكان باهي يتنبأ بأننا سنعرف بعد وقت من الزمن المسألة الأمازيغية، والمسألة الإسلامية، وبناء عليه فإن المغرب العربي الذي يتميز بهذا الايقاع يجب إعادة بنائه على أسس أخرى غير تلك التي تعرفها اليوم، ذلك أن هذه القواعد والأسس لا يمكن إقامتها بدون ديمقراطية. وما يعوز حركتنا الوطنية هو البعد الديمقراطي، وما ينقصها أيضا هو القدرة على اقتحام المرجعية الإسلامية والتفاعل معها، خاصة مع مراجعتها بالأساس لما يشوبها من فوارق خاصة تجاه الأجانب والمرأة.
ينبغي الانتباه أيضا إلى ضرورة استكمال ورش العمل الاجتماعي، ذلك أن ما تم القيام به على هذا المستوى في الثلاثينيات يظل غير كاف، اأي نهج إدماج اجتماعي للقادة والشباب المغاربيين في جمعيات الطلبة والنقابات، وحتى لدى رجال الأعمال في المقاولات، هذه المهام التي يتعين علينا مواجهتها، وهذا ما كان باهي يفكر فيه.
كان باهي يدويا، يحب الفضاءات الكبرى ويكره الحدود الفاصلة. هذا الطريق تتخلله صعوبة أساسية، يمكن صياغتها كما يلي: نجد أنفسنا أمام ضيق ذوينا وتفاهة الآخرين.


الكاتب : محمد حربي

  

بتاريخ : 04/06/2022