محمد عنيبة الحمري : شاعر لا أغمات له في الشعر

يقال دوما بأننا، نحن النقاد، نأتي بعد المعركة، نجرد الشعر من الحياة، ونحنطه في لحد النظرية، نجفف شعلة القصيدة من الضوء، نحن النقاد الذين ننتمي الى منازل الكسوف والخسوف، لا نستطيع التحديق بباصرتنا في عين الشمس، وأيادينا ملطخة بالكثير من الرماد.
هذا قول مغرض، وينتمي إلى ثقافة نقدية بائدة.

منذ نشأة الخيال الشعري الرومنطيقي باعتباره تجاوزا للمنظومة الشعرية الكلاسيكية، استعاد الشعر «سؤال الذات»، وهو مكسب كبير لأنه تجاوز لما يمكن أن نسميه مجازا (شعر القبيلة).
ومع نشأة الحداثة الشعرية تم إرساء قيم الاختلاف، والنظر الى الفعل الشعري باعتباره فعل اختراق دائم، ونزوعا مشدودا الى إستطيقا المغايرة والاختلاف، وتحرير الفاعلية الإبداعية من المذهبية والتكريس والثبوتية وطوطم النموذج. وهذا الوعي الشعري الحديث، لم يأت من فراغ، بل تزامن، وعلى نحو محايث بتشكل وعي نقدي جديد تحرر بدوره من آلية النقد القيمي، نقد بدوره قائم على جدلية الهدم والبناء، وعلى فاعلية القراءة ككتابة ثانية، وعلى فاعلية النقد باعتباره اختراقا وتفكيكا وتأسيسا للبعد الثالث للشعر.
من هذا المدخل سأقدم قراءة أولى للمتن الشعري الموسوم بـ»الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد عنيبة الحمري»، منطلقا في الأول من تسجيل ملاحظتين في غاية الوجاهة:
أ) الملاحظة الأولى تتعلق باختيار الشاعر ترتيب سِفريْ أعماله الكاملة وفق خط زمني ارتدادي (أشبه بالقراءة على عكس التيار).
ب)الملاحظة الثانية تتعلق بتعدد «أزمنة الكتابة» وليس أزمنة النشر، وأوضح هذا الأمر بأن الدواوين التالية:
«تكتبك المحن»(2013)
«انكسار الأوان» (2006)
«سم هذا البياض» (2000)
«رعشات المكان» (1996)
تنتمي إلى زمن شعري إستطيقي يختلف جذريا عن الزمن الشعري لباقي الدواوين الأخرى، تلك التي في نظري تؤرخ لما يمكن أن نسميه «النص المؤسس» في تجربة محمد عنيبة الحمري، أو بعبارة أخرى يمكن أن نسميه»نص الجيل» كما سنوضح بعد قليل.
بخصوص الملاحظة الأولى، نتساءل:
هل تُقرأ التجربة الشعرية بمآلها وخواتمها أم تقرأ بعتباتها ومدارجها الأولى؟ والجواب بالنسبة لي هو لا هذا ولا ذاك، وذلك لأن الفاعلية الإبداعية للشعر هي من منظور (م. بلانشو،خ. بورخيص، هولدرلين، أو هايدغر) هي دوما ذهاب بالشعر الى مطلق الشعر، وذهاب بالقصيدة الى مطلق الأدب. قوة الشاعر تكمن في القدرة الدائمة على التجاوز وخلق الفارق، وأرى شخصيا أن محمد عنيبة الحمري تلبّس بهذا الوعي الشعري بيقظة جمالية تستحق الانتباه، واستطاع منذ «رعشات المكان» وما تلاه من أعمال شعرية متمثلة في «سم هذا البياض» و»انكسار الأوان» و «تكتبك المحن» أن يشرع نوافذ القصيدة لديه على اختبار المسافات القصوى واللاحدودية للإدراك الشعري، والذهاب نحو ارتياد اللامتناهي الشعري، خالقا الفارق المتجسد في الوعي بأن الفعل الشعري ليس استجابة لسؤال إيديولوجي، بل استجابة كينونية لتماهي الشرط الوجودي بالشرط الجمالي، وهذا الاختمار الواعي بديناميات الكتابة المغايرة هو ما سيقود الشاعر الى تخفيف وقع كلمته الشعرية من الأثر الفيزيقي والمرجعي والارتقاء بها الى الشفافية الرمزية التخييلية لتشتغل لا كذاكرة تؤرشف الواقع، بل كأثر وكمحو، وكماء سري لزهرة المعنى، وتشظ رملي لاستكناه الفراغ والصمت والعدم ورعشات الأمكنة المسكونة بالظلال، وانكسار الضوء المجروح بأوهام العتمة، نقرأ من هذا السياق:
إنها الريح
ترحل عبر الرمال
وتوهم صاحبها بالمقام
تتثاءب تلك الرواحل
قد هدها السير
لا تملك الآن غير الصهيل
فشكت للفلاة تباريحها
ومضت تقتفي أثر الخطو
بعد اختفاء الدليل
تعبتْ في الفيافي مداركنا
وغدت حرقة الماء قلب
دواخلنا
فانكوى عطشا
قلب هذا العليل
تتراءى لك الخطوات
ولا تدري
أن الفلاة تعيش اليوم على سنن المحو
كل حين (ص51.53)

هذا بخصوص الملاحظة الأولى حول الترتيب الارتدادي لسفريْ الاعمال الكاملة وسياقه الدلالي. أما بخصوص الملاحظة الثانية، فإنها بكل تأكيد تقودنا الى الحديث عن مفهوم «النص المؤسس» في تجربة الشاعر محمد عنيبة الحمري أو «نص الجيل» بصيغة أكثر إحالة على انتساب وثيق إلى ما يوصف في دراسة الشعر المغربي بـ»جيل السبعينات».
هذا «النص المؤسس» طرح في الواقع الثقافي الأدبي المغربي سؤال الهوية الشعرية الذي عرف إكراهين:
أ)إكراه أول أن المجيء الى الشعر حدث في مرحلة سوسيو ثقافية تأثرت على نحو رازح بثنائية ( المركز/المشرق والمحيط/ المغرب)، وأدى هذا السياق إلى ظاهرة استعارة النموذج الشعري المشرقي.
ب) إكراه ثان متمثل في كون المجيء إلى الشعر اقترن بوعي نقدي رافع بصوت ملحمي عالي النبرة عن «مفهوم» الالتزام، وكان من تأثير هذا السياق ارتهان الكتابة الشعرية بسلطة السؤال الإيديولوجي، وخندقة العلاقة الرمزية بين الشعر والعالم في جسر وحيد البعد، كفَّ فيه الشعر عن أن يكون سؤالا وأخذ شكل الجواب عن غائية جعلت ماهو شعري، يقع في فخ النموذج والنمط والمعيار.
يمكن إضافة ملاحظة جوهرية الى الإكراهين السابقين، نستطيع تمثل أبعادها في الدواوين الشعرية التالية لمحمد عنيبة الحمري:
«مرثية للمصلوبين» (1977)
«داء الأحبة» (1967)
«الشوق للإبحار» (1973)
لن أتحدث في هذه الملاحظة عن تشابه وتشاكل البنيات النصية المشكلة لشعر ما اصطلح عليه بجيل السبعينات، فهي معروفة لدى الجميع وأنهكت بالدراسة من طرق نقاد وشعراء نقاد مثل الناقوري والعوفي وبنيس وراجع والمجاطي وبوسريف والوراري وآخرين…
هي ملاحظة يمكن توصيفها في كون القصيدة السبعينية، وإن لم تضع سؤال «الشكل» على المحك، مثلما لم تكن معنية ب»تفجير الشكل»، إلا أنها قدمت اجتهادا متمثلا في «التذويت المكاني للشكل».
إنه عند شعراء مغاربة أخذ تمظهرات متعددة (بنيس، راجع، بلبداوي) لكم مع محمد عنيبة الحمري تجسد في مستويات أبرزها بالنسبة لي، تشغيل بنيات نصية ولغوية قريبة من المكان الرمزي للشاعر ، وتتجسد في النص الشعري والثقافي الأندلسي، واسترفاد رمزيات المتون الفقهية والصوفية المغربية، كل هذا في محاولة لخلق مسافة شعرية تخييلية مع القصيدة المشرقية التي لها ذات الشكل.
لكل هذا فالشاعر محمد عنيبة الحمري شاعر ينتمي الى الزمن الكلي للشعر، شاعر لا أغمات له في الشعر لأنه اختار الترحال بدل الإقامة في ظله.


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 10/10/2020