محمد مفتاح فقيد الثقافة والأدب

التحق الناقد محمد مفتاح بالرفيق الأعلى مسلما الروح إلى باريها عن سن ناهز الثمانين، مخلفا إرثا ثقافيا وسجلا أكاديميا ثريا يحق للطلبة والمثقفين والمهتمين أن يفتخروا به، فقد ألف في اللغويات في علاقتها بالمنطق، كيف لا، وهو الأستاذ الذي خبر علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة، ومنطق وفقه لغة، يوم كان لهذه العلوم شأنا وأي شأن في التعليم الثانوي، وعندما التحق استاذا محاضرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في أواخر السبعينات، انبرى لإلقاء محاضراته في النحو العربي لطلابه في سلك الإجازة ،تخصص اللغة العربية وآدابها. ويشهد له طلابه بعلو كعبه في فك مستغلقات النحو العربي، واقتراح بدائل منهجية في المسائل الخلافية بين مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، وأهل مكة أدرى بشعابها. ويعد المشمول برحمته محمد مفتاح من الباحثين الأوائل الذين فطنوا إلى تلك الوشائج الوثيقة التي تربط النحو العربي بالمنطق الأرسطي، لأنه درس هذه المتون في مظانها الأصلية، مستعينا بالترجمات العربية التي تمت مباشرة من النصوص اليونانية وإعراضه صفحا عن الترجمات التي أنجزت حول السوريانية.
لقد اشتغل المرحوم محمد مفتاح على تحقيق ديوان لسان الدين بن الخطيب، وهو من هو في نظم الشعر ونال بهذا التحقيق العلمي الدقيق والرصين دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها، ومن ذلك الحين وهو يشحذ الهمم بحثا في المناهج النقدية المعاصرة في علاقتها بالشعر المغربي والأندلسي، وهو يعلم علم اليقين أن امتلاك أدوات تحليل الخطاب يستدعي بداهة التمكن من اللغات الحية خاصة اللغة الانجليزية ، وقد تأتى له ذلك بفضل معاشرته لكتب أعلام اللسانيات والسميائيات والمناهج النقدية والفلسفة والتصوف والمنطق.
لقد فاجأ جيله في كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، وسجل أطروحته لنيل دكتوراة الدولة في الآداب تحت إشراف العلامة محمد أركون في موضوع خطاب التصوف. ولم يكن لينال سبق هذا الإشراف لولا أن القدر كان يخبئ له سنبلة على حد تعبير الشاعر محمود درويش، فقد دعا المرحوم الدكتور محمد أركون إلى مأدبة عشاء في منزله مستغلا زيارته العلمية للرباط، وقدم له تقريرا مفصلا حول الأطروحة التي ينوي الاشتغال عليه ؛هذا التقرير الذي لقي استحسانا لدى المشرف وغير نظرته تجاه الباحث، فقبل اطلاعه على هذا التقرير وصل إلى أسماعه أن الاستاذ لا يحسن إلا لغة الضاد. ولم يخيب ظنه أثناء مناقشته لأطروحته في الخطاب الصوفي التي أبان فيها عن علو كعبه في تحليل هذا الخطاب، متمثلا السميائيات واللسانيات والمناهج النقدية المعاصرة. والجميل أن الراحل محمد مفتاح لم يجعل هذه الأطروحة حبيسة الرفوف في خزانة الكلية، بل أخرجها في شكل كتاب وفي نسخة مزيدة ومنقحة ليستفيد منه القراء والمهتمون والباحثون في الجامعة المغربية.
ويعد الراحل الدكتور محمد مفتاح من الأوائل الذين نالوا شرف الإشراف على الأطاريح الجامعية إلى جانب كل من الدكتور عباس الجراري أطال الله في عمره، والدكتور محمد بن شريفة والدكتور علال الغازي رحمهما الله. ويكفيه صدقة جارية في ميزان حسناته أنه أشرف على أطاريح شكلت منعطفات في الجامعة المغربية ،وأذكر على سبيل التمثيل لا الحصر أطروحة الدكتور ادريس بلمليح رحمه الله «المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب»، وأطروحة الدكتور أحمد بوحسن أطال الله في عمره، «كيف كتب تاريخ الأدب العربي، نموذج كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني»، وأطروحة الدكتور محمد الدغمومي اطال الله في عمره، «نقد النقد وتنظير النقد الأدبي المعاصر»، واللائحة طويلة. وكم كنت أمني النفس لأكون من طلبة الراحل محمد مفتاح في السلك الثالث في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، لكنني اخترت تخصص النقد الأدبي ومناهجه الذي كان يشرف عليه كل من الدكتور علال الغازي والدكتور احمد يزن والدكتور احمد بوحسن، أما الراحل فقد كان يشرف على تخصص أدب الغرب الإسلامي في الأندلس، وقد كان لي الشرف أن تلقيت السيميائيات على الاستاذ الدكتور سعيد يقطين، وهو من هو في نقد الرواية والسيميائيات، والراحل محمد مفتاح هو الذي سلم المشعل للأستاذ سعيد يقطين لتدريس السميوطيقا لطلبة الإجازة. ومن شدة ولعي بالاستماع إلى مناقشة الأطاريح الجامعية في الأدب والفلسفة، كنت أفضل حضور مناقشات محمد مفتاح لما تتسم به من جدية وواقعية والجهر بالحقيقة مهما كانت مرة. وفي إحدى مناقشاته سأل الطالب الممتحن: هل تعرف اللغة اليونانية، أجاب بلا، عقب عليه، إذن لنعتبر الفصل الأول من الاطروحة خارج الموضوع، ومرة خاب ظنه في طالب باحث لا ينضبط لقواعد اللغة العربية حينما كان يقرأ تقريره الذي أعده للدفاع عن أطروحته، وعندما فرغ من القراءة، عقب عليه بجملة ساخرة لكنها دالة، كأنك كنت تنزل على رأسي بمطرقة. وبالمختصر المفيد فإن الراحل محمد مفتاح لم يكن يهادن أو يجامل في البحث العلمي الأكاديمي، ويحق للمكتبة المغربية أن تتباهى بإنتاج علمي وفير خلفه الراحل نال به جوائز علمية رفيعة داخل الوطن وخارجه. رحم الله الفقيد واسكنه فسيح جناته.


الكاتب : د.امحمد امحور

  

بتاريخ : 23/03/2022