مديح العشق في احتضان التوازن الثقافي والفيزيائي

«تجربة لمياء الكرماعي نموذجا»

 

قد يتبادر لذهن القارئ، هنا، أن العنوان شاعري يحيل على مطلع لقصيدة طللية، لكن الأمر هنا يختلف في الشكل والجوهر على حد سواء، لأن السؤال في هذه الدراسة يتناول جنسا فنيا، له مقوماته وآلياته التعبيرية التي تتقاطع مع الأدب في السرد والوصف، كما هو الحال عليه في عدة تجارب قد خلت.
تتعلق هذه الدراسة بتجربة الفنانة الصاعدة لمياء الكرماعي، التي دشنت علاقتها بكل ما هو معاصر، متجاوزة فكرة الحداثة في شقها التصنيفي، مستعينة بعناصر وأيقونات اكتسبت معالمها من ممارستها العالمة بخبايا التشكيل، من خلال سفرياتها حول العالم، ومن معاينتها للمتاحف والمعارض الفنية.
لم تكتف لمياء الكرماعي بما التقطته من تجارب واتجاهات فنية في مسيرتها الإبداعية، بل التجأت إلى الوقوف على أسرار معالجة الجداريات وما تكتنفه من أسئلة تختلف عن أسندة الأقمشة ونوعية ما تطرحه من قضايا أساسية، ساعدتها على خلق توازنات مرئية شملت موضوعين أساسيين ومعاصرين هما موضوع الجسد وما يحيطه من غموض، وجاذبية التوازن في علاقتها بهذا الجسد، في إطار متجاوز للرؤية الشوفينية والجنسية للجسد الأنثوي، باعتباره طابوها لا يمكن الحديث عنه إلا في مجالات ضيقة.
لقد حاول كل من الفنانين النحاتين الآتية أسماؤهم تحقيق توازن كسؤال فيزيائي في أعمالهم أمثال «طاكيس، وريشار صيرا» هذا الأخير الذي تسببت منحوتته (كلارا كلارا) بباريس في قتل أحد العمال، بسبب فقدان تلك الأيقونة توازنها.
من هنا سوف نلاحظ تحول الفكرة التي أنجزت من أجلها هذه الأيقونة، من توازن ثقافي إلى توازن فيزيائي ملموس في علاقته بالمحيط واتجاه الرياح، وبما قد يترتب عنها من حوادث لها علاقة بالجسد، ذلك التوازن الذي اتخذ في عمل لمياء الكرماعي بعدا ثالثا بعدما أن اعتمد فقط على بعدين واضحين للعيان، لأن البعد الثالث الذي اختزلته الحركات في أعمالها كان خفيا وساكنا ولامرئيا وثابتا على القماش في نفس الآن، إذ يقول «كليمون روسي» في هذا الصدد في كتابه «اللامرئي» ص (77) تحت عنوان «شعرية اللامرئي» الذي ترجمه من الفرنسية للعربية «المصطفى صباني» ما يلي: «يمكن أن تُشكَل رؤية اللامرئي، أو بالأحرى ما يوحي بمثل هذه الرؤية، مادة وهم، بل مادة خلق ذات طابع شعري. وحينئذ يكتسب الموضوع الموحى إليه قيمة أدبية بارزة، بقدر ما هو غير موجود تحديدا، وأن لا يكون بإمكانه، بناء على ذلك، أن يُرى، ولا أن يُدرك، ولا حتى أن يُوصف…».
بمعنى آخر، إن لمياء الكرماعي كانت تبحث عن حركة سحرية تقترب منها إلى البعد الرابع على شاكلة عمل للفنان مارسيل دوشان الموسوم ب (عارية تنزل الأدراج)، وما جاء به الفنان «أليكسندر كالدير»، عندما استلهم الأشكال من أعمال الفنانين «فاسيلي كاندانسكي وخوان ميرو» (وهذا استنتاج شخصي) وجعلها متحركة، والانتقال بها من بعدين أي الطول والعرض إلى بعد ثالث وهو العمق ورابع في نفس الوقت أي الحركة، مع توظيف هبوب الرياح وانعكاس الضوء والعتمة على تفاصيلها.
فإذا كان الجسد بسمفونيته الموسيقية ورشاقته الرياضية هو المحرك المحوري لمشروع الفنانة لمياء الكرماعي، فإن تناغم جسدي المرأة والرجل معا، هما الصيغتان المثلى لتحرير الطرف الأول من هيمنة وسطوة الثاني، من منظور أنثوي يملك ناصية التحليل والتفكيك المشهدي للتواصل مع المتلقي، إذ كل ما يدور في فلكهما من عناصر مركبة ليست إلا تكملة للتوازن المرئي وللتكوين في شموليته الجمالية.
وفي إطار شمولية المعنى، لم تكتف الفنانة لمياء الكرماعي بكل هذه الخاصيات التي أشرنا إليها سالفا، بل انتقلت من الفضاء الداخلي لتمتح من الفضاء الخارجي، وتجعل منهما وحدة مندمجة في إطار حوار صامت يقبع خلف ما يرى، ولذلك يحضر الفعل الكرافيتي (Graffiti) في أعمالها من خلال الحركة والعفوية بتحركات الجسد المنتج للتحفة، وكأننا أمام جدار خارجي، تعبيرا عن الحرية والرغبة في تفجير المشاعر المكبوحة والخروج بها من العتمة إلى النور، استنادا لأسباب ظهور الجداريات التي تمرد أصحابها على واقع مزري في فترات معينة من تاريخ الإنسانية في مواجهة كل فعل لا يرقى إلى المستوى الحضاري، ضدا على العنصرية والتهميش والإقصاء وغياب الكرامة…، بمعنى أن تجربة الفنانة لمياء الكرماعي، تحمل رسالة إنسانية كونية ووجودية، وتخفي في ثناياها صورا شعرية تفرض نفسها على المشاهد بقوة الصورة، وتسافر بخياله عبر مسارات تأويلية غنية بمعطياتها الثقافية.
إن ما ميز تجربة الفنانة لمياء الكرماعي، هو ذلك الملون Palette السحري الذي أنجبته من رحم الإبداع، بخضابه المتنوعة وألوانه المشعة Fluorescentes، كعملية كيميائية جمعت فيه من التدرجات اللونية ما لا يمكن جمعه على مستوى المشاهدة، لما تحفل به هذه العملية من تناقضات بصرية قد لا تقبلها دائرة لونية Cercle chromatique كيفما كان نوعها، لذلك أصبحت جل أعمالها ساحة لكل التجارب والتكهنات الفنية، انطلاقا من فكرة المغايرة الخلاقة، حيث جعلت منها مجالا للتجانس والتفاعل بين الألوان حد الاندماج، ليصبح عملها محط تقاطع بين اتجاهين مختلفين في الشكل والمعنى هما التشخيص والتجريد.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 25/02/2023