«مرآة خبز وقمر» للكاتبة زهرة عز : بين جمالية الحكي وحكائية القُبح

 

القاص كالبستاني، يبحث عن الشمس، عن التربة، عن الهواء المعتدل، عن المطر، عن التركيبة البيولوجية والبيئية المناسبة للزراعة والبستنة. هكذا هي قصص الروائية المبدعة الدكتورة زهرة عز في مجموعتها القصصية «مرآة، خبز وقمر» في اختيار عوالمها وتشكيل فضاءاتها وتشييد منجزها الحكائي. لقد استطاعت أن تشكل تجربتها وفقا لمعطيات فنية وجمالية لا أقول خارجة عن المألوف، ولكنها تقترب بدلالاتها من ثقافة المتلقي دون أن تحاول تجاوزها. لن أتحدث عن الغموض الذي تكتنفه بعض القصص باستعمال الميثولوجيا التي تشعرنا أحيانا وكأننا في عالم غرائبي ممتلئ بالسحر والفانتازيا والحُلم، كمثال على ذلك توظيف أسطورة طائر الفينق في قصة وطن بلا عينين. يقول الراوي: لن تُخمدوا صوتي، أنا الفينق، بُعثت من رماد. (ص 11). هذا التوظيف يمكن اعتباره واحدا من مدعمات السرد المتنوعة على امتداد قصص المجموعة ككل، لأن ( السرد حاضر في الأسطورة، والخرافة، والمثل، والحكاية، والقصة القصيرة، والملحمة، والتاريخ، والتراجيديا، والمأساة، والملهاة، والمسرح الإيمائي..) رولان بارث، النقد البنيوي للحكاية (ص71). هذا التنوع في المُدعِّمات جدير بأن يسهل على المتلقي اكتشاف هوية نصوص المجموعة: ( وطن بلا عينين، حمالة وطن، الحب في زمن الفيسبوك، عباد الشمس، مرآة خبز وقمر، المهرج الصامت، محاكمة، محفظة وطن، رسالة من تحت الماء، بريد الغياب، كابوس منتصف الليل، شجرة الموز، ريشة النورس، كراسة الوطن، قلم سيجارة وقمر).
في هذه الورقة سألقي إضاءات على شيء مما تختزنه نصوص هذا العمل، من حيث المخزون الثقافي والخلفية الإبداعية والتلازم المشترك بين نقد الواقع ومنهجية الكتابة عند القاصة زهرة عز التي تعتمد بشكل أساس على معالجة الجوانب الإنسانية التي باتت تنزع نحو الاختفاء والتلاشي من حياتنا الاجتماعية المعاصرة.

1 – الحدث بين
الواقعي والوقائعي

تعتبر واقعية السرد في قصص الروائية المبدعة زهرة عز ركيزة أساسية في بناء الحكاية ، فقصة «حمالة الوطن» في بعدها الإنساني تزخر بعتبات الانفلات من الماضي المشرق إلى الحاضر المؤلم الذي يكتنف بطلة القصة مي فاطنة، المرأة التي تلعب الدور المقصي والمنسي في الوطن ، وبرغم تشبثها بما تبقى من تركة زوجها المعطي ، وبخاصة العلم الوطني ، لم تستفد من مخلفات الماضي الجميل إلا هذا الثوب الذي ستتكفن فيه بعدما رمتها الأقدار خارج التاريخ وخارج الوجود الكريم .
هناك عنصر آخر يواجهنا في القصة وهو الهجرة وترك الوطن ، ترك الأم ترزح في المعاناة والغرق ، ذاك المصير الذي واجهه بالموت ابنها عبد العاطي . تبدو الساردة وهي تحيط المرأة المنكوبة مي فاطنة بسياج المعاناة وكأنها محكومة بالفشل على طول الخط : زوجها الذي ناضل في المسيرة الخضراء ولم يحصل شيئا . ابنها الذي يكتشف عجزه عن الحب لفقره فيختار الهجرة ثم ليموت غريقا مطحونا طريدا . الأم تغرق في براكتها الصدئة ولا مغيث، فأي شيء تطمح إليه هذه المرأة بعد ذلك ؟ . ماهي المنحة التي ستراهن عليها بتشبثها بوشاحها الأحمر المطرز بالراية الوطنية ولم تجد يدا تنتشلها من شيخوخة مخيفة؟. لقد طرحت الكاتبة أسئلة وجودية، وعليه، تبقى مهمة المتلقي مداهمة إشكاليات النص والتحقق من المصير الرُّهابي للشخوص.
في تصوري، أن الكاتبة تحاول أن تستدعي وعي القارئ ليكتشف الإجابات الحارقة من خلال الحقول الدلالية لمجريات الحكي، ومن خلال الاعتماد على تركيبته الثقافية والفكرية، أو اعتمادا على ضميره النقدي إن صح القول.

2 – الشخص المُقَنّع
أو الخروج من الذات

كنوع من التزييف المُضلِّل، تمثل قصة الحب في زمن الفيسبوك الواقع المزيف، العلاقة الهشة بين الواقعي والافتراضي المبنية على التحايل، وما تعبّر عنه ثنائية الوجه والقناع، والحقيقة ونقيضها. قصة حب مبنية على الوهم تبتدئ بصور مفلترة وتنتهي بالبلوك والقطيعة
في إحالة على مأساوية العلاقات الإنسانية الجديدة بما يمكن أن نعبر عنه بظاهرة البطولة الشكلية أو البطل الصوري. استلهاما مما سماه L.Goldmann :بالبطل الإشكالي. (انظر اشتغال الخطاب النقدي بالمغرب ص146. العياشي أبو الشتاء).
نتحدث هنا أيضا عن الوجه المفقود، أو صيرورة البحث عن وجه. نقرأ في قصة المهرج الصامت.49. (يبحث عن وجه). هل هي إشارات نصية تحدد تطلع الإنسان المستمر إلى وجه جديد، ليس فقط من خلال تجديده ومكيجته ولكن بإضافة المزيد من الأقنعة مادام أن الأقنعة هي ( مفتاح ولوج عالم لايرحم) 50، بحسب الساردة، وباعتبار الشخص الذي يرتدي القناع يكون (قد تخلّص من شخصيته وهويته وذاته وتَقمص شخصية أخرى غير شخصيته) (د.عبد المعطي شعراوي مقدمة كوميديا الفظ ص119 ).

3 – معاداة الأنوثة

تعبر قصة» مرآة خبز وقمر» عن أزمة الرجل الكابوس، عن أرق الأنثى، وأحلام أنثى وئيدة أمام الكينونة الميتة لزوج بلا مشاعر، غيابه أفضل من حضوره. أو عندما يكون العدم أقوى من الوجود. نقرأ ص 43: ( بعد خروج علال، أحكمت إغلاق باب البرّاكة الصدئة. اغتسلت من روائحه الكريهة وبدأت الاستعدادات لحفلتها. لن تقف أمام مرآتها السحرية إلا وهي في كامل زينتها ). إنه نص يؤسس لانتفاضة أنثى تتغيا التحرر من قبضة العقلية والخطاب الذكوري. الخطاب الذي يمثل ( البنية الذهنية المناقضة للانفتاح) كما يقول محمد بنيس في ( كلام في الجسد) ص96.

4 – التراجع القيمي

تحكي قصة مُحاكمة عن إنسان في وضعية تشرد.
ما يصيغ بناء القصة هو تلك الطاقة الإنسانية المُعارضة لحالات التشرد، واعتماد مستوى زمني واحد تلتقي فيه، بقصد أو بصدفة، مستويات اجتماعية متباينة؛ القضاء( القاضية نادية العرعوري)، الطب(الدكتور جمال)، السجن، التشرد، الهدر المدرسي، مسح الأحذية، ندالة المقاهي، المتاجرة بالمخدرات ( في شخصية وحيد بن عبد الله)، في محاكمة تحمل أبعادا إستعارية، إن صح التوصيف، لا نعرف المسؤول من الضحية، ولا نعرف من هي الشخصية الوظيفية المنوطة بنجاح مهمتها، أتحدث هنا عن النجاح الأخلاقي القيمي، على اعتبار أن تاجر المخدرات (وحيد ) قد نجح في تجارته على نحو ما.

5 – طموحات مشروخة في قصة محفظة وطن.

وعبر مجموعة من الإمكانيات الحكائية المتنوعة كاختيار موقع الحكي (فيلا الحاج التاغي ) و (براكة فاطمة )، وحيازة مفاتيح لغة سلسة، وسرد يعتمد الوصف ويغالي في التفاصيل، ولغة تمتاح مفرداتها من الرصيد الفني الجمالي الأدبي ولا تتجاوز الثقافة السائدة وفي نفس الآن، لا تستدعي كتابة حَرْفية مباشرة، وبناء سردي يعتمد على المخيلة المتحررة والذاكرة التسجيلية أو ما يمكن أن نسميه بالحكي النوستالجي، وبما لهذا النص من مميزات إبداعية أخرى، تستدرجنا الساردة نحو اكتشاف التفاوتات الاجتماعية لمنظومة علاقات إنسانية غير متكافئة، غير متكاملة، مما يثير توجسات المتلقي.
فبين شخصية فاطمة المرأة البسيطة التي تبحث عن محفظة مدرسية لابنها الصغير، وبين شخصية الحاج التاغي الذي يمثل الذات المتغطرسة المتعالية المتجرد من إنسانيتها الساعية لاستغلال الذات في وضعية هشاشة اجتماعية لمصالح شخصية انتخابوية، توقفنا الكاتبة على استحالة العيش ونهاية التعايش وانتحار الطفولة حينما تتصادم إرادة التعالي(التاغي) بإرادة الكرامة (فاطمة)، التصادم الذي تكشفه نهاية القصة وانتحار الابن وصرخة الأم : ( الحاج التاغي قتل ولدي).

6 – الانسحاب من العالم/ الوجود في قصة» بريد الغياب»:

إذا كانت كينونة القصة القصيرة، كما الرواية، ( مبنية على شقين متكاملين: الأول تُمثله الحكاية، والثاني يجسده الخطاب) (محمد التمارة، مجلة الراوي ص69)، فإننا نرصد هذه السمة بجلاء في قصص المبدعة زهرة عز.
من جهة الحكاية نرصد: تناسل قصصي، بمعنى حكاية داخل حكاية كمؤشر على دينامية العمل الإبداعي.
من جهة الخطاب نقف على مرجعياتها الإحالية على كائنات ورقية هي شخصيات القصة وعلى كائنات حقيقية مادية حسية، إذ القصة لايمكن ( أن تنفلت عن واقعها) بحسب د.زهير القاسمي. عالم الفكر 138، ع177.
إحالات قصة بريد الغياب:
(لم يكن لهما رأي في اختيار اللقاء) ص82. إحالة على موقف ضاغط يحدد اختياراتنا ومماراساتنا.
(وجودي يُحرجهم)ص85، إحالة على شرطية الوجود المنفي، وحتمية العزلة الإنسانية التي تضعنا أمام الإرتداد إلى الذات، والعيش بمعزل عن العالم. تقول الساردة( كنت أتنقل بينهم- أبناءها- كالغريبة) حكاية عن حياة امرأة ذات تاريخ وأبناء ومركزية عائلية ينتهي بها المطاف في دار للعجزة كدلالة مأساوية على اغتراب الإنسان وغربته السحيقة في وجود لم يعد يعترف بالتماسك العائلي/الإنساني.

7 – عتبات الخوف المصاحب للفوز في قصة « قلم، سيجارة وقمر»

تمتلك قصص المبدعة زهرة عز قدرة على دفع القارئ بقوة إلى التماهي بشخصية النص الرئيسة ، بدءا بسؤال الصمت الذي يعتبر لحظة كمون خطير في مسيرة البطل عزيز مع الكتابة بعدما تحول من كاتب صارخ إلى صامت يتقمص نفسية الشخصية الروائية «مجاهد» في روايته التي سيكتبها في أخريات أحلامه، اللحظة التي يريد عزيز أن يودع فيها العالم، لكن الوداع سيكون بطريقة مأساوية انتحارية. ربما يحمل موت البطل عتبة نصية تؤشر صيرورة الذات الإنسانية المبدعة نحو المشنقة.
القصة بأسلوبها تضرب سايكولوجيا الأعماق. ثمة تمفصل مشترك بين الأدب والطب النفسي يمتد إلى كشف التركيبة السيكولوجية المعطوبة للشخصية المُهانة، على اعتبار اشتغال الدكتورة زهرة عز بالمجال الطبي. فالذات الكاتبة، في تصوري، (تنتقي عناصر عالمها من صميم الفضاء القريب.. إيمانا منها بكون العالم الذي يشتبك به الكاتب هو أهم العوالم الممكنة داخل النص). (د. إبراهيم الحجري، القصة العربية الجديدة، صفحة 258). هذا التمفصل المشترك بين الأدب والطب صنع من عزيز شخصية ملحمية بحذاقة فنية متقنة. عزيز الكاتب الذي يفترض أن يكون رائدا في كتابة المقالات، الناقدة للواقع، يجد نفسه وجها لوجه أمام عتاة الإفساد، فيسكت، وهنا تدخلنا الساردة إلى دائرة الصمت الإكراهي، ثم عزلة الكاتب عزيز، وسجنه داخل جسده وبيته الذي يفتقد شروط الحياة، ثم محاولته الانتحار والخلاص. مع آخر سطر يحرره من روايته المثيرة للمشاكل، يتحرر بطلها مجاهد من عبودية الفساد، ومن خلال روايته ، سيبوح عزيز بأشياء تعذر عليه أن يتفوه بها في الواقع. إنه يمارس فعل الصراخ بالكتابة. وبعدها فليأت الموت والانتحار كضريبة للتحرر، على أنني أسجل أن النص ينطوي على تآويل وقراءات أخرى وهنا يكمن السحر القصصي.
بما أن «السرد القصصي يفوق الفكرة الي يتم التفكير فيها من ناحية التاثير والتفاعل» ( د. آدم نيوتن: عالم الفكر 228، ع180)، فإن القاصة و الروائية زهرة عز قد تبنّت في مجموعتها (مرآة خبز وقمر) أسلوبا حكائيا متدفقا كأداة تعبير إبداعية لترسيخ كل ماهو إنساني، ورصد مظاهر تلاشي الثقافة والحضارة والجمال والحب، ليس من أجل محاكاة مأساوية للواقع فحسب، بقدر ما هو إعادة إعمار جديدة لما يحدث من انفصام وقطيعة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والعالم.


الكاتب : محمد غزلي

  

بتاريخ : 12/02/2021