مشاهدات : كاتب مورو في مدريد

1
لم تكن قدماي تتوفران على ذاكرة وهما تطآن ساحة بويرتا ديل صول، أو باب الشمس، في وسط مدريد. وذلك قبل الصعود إليها قادما من محطة الباصات الجنوبية عبر ميترو صول الدائري رقم 6 circulareورقم 1، في شبه انسياق تام داخل نفقه المضيء الهادئ. لم يرشدهما ذهني الذي ذاكرتي كانت صفحة بيضاء أمام مدريد. وإذن لم تحصل الدهشة. وتم تعويضها بشكل لا إرادي بالرغبة القوية في اكتشاف مدينة ميتروبولية تقع في الشمال الداني.
لا كتاب ولا موسيقى ولا فيلم له صلة بمدريد يسعف في استحضار خطوة أولى مساعدة. سرفنتس الذي راعتني ساقه العارية في تمثاله بساحة اسبانيا الشهيرة وسط المدينة ولوپي دي فيݣ اوكويا مثلا مبدعون عالميون وقروسطيونوبالتالي هم لامتصلون بالمقام الحالي. ومبدعو مدريد في القرن العشرين تشتت الكثير منهم في فرنسا إبان حكم الجنرال فرانكو.
إذن من ذاكرة فارغة تقريبا حللت بالمدينة. أقول تقريبا لأن ما يعلق بذاكرتي هو فريقها الكروي الملكي ريال مدريد. صورة بالأبيض والأسود للاعبين أسطوريين هما خينتووأمانسيو هي ما يحضر، فهل تسعف الكاتب في مراودة المدينة؟ طبعا ولم لا. أليست كرة القدم جزءا من تاريخه الأدبي المعلن قبل الكتابة؟ بلى. والأفضل ولو لمرة واحدة، تخيرت الحياد عن عالم الورق والبدء برؤية استاديو برنابيو للوقوف أمام المعلمة الرياضية ليس كعمارة ولكن بما توحي به من أساطير رياضية كنت مأخوذا بها. مدهش، النادي الملكي يقع في وسط حي الأعمال والمال، في مركز السلطة. ليس نادي الهامش وٱن كان، كما اكتشفت ذلك، هو نادي حي سكني معروف هو شامارتين، وفي أغنية النادي إشارة إليه. عكس استاديو كالديرون، ملعب النادي المدريدي الآخر، أتليتكو، الواقع في الحي الشرقي الغربي للمدينة. هما رؤيتان وتصوران لصنع الفرح في الحياة إن صح التعبير، يركبان متن اللعبة الأشهر. وهكذا تخلص الكاتب من صور ذاكرة قديمة وعرف بعضا من حقيقة سكنت الشاشة الصغيرة متعالية دون سمو، لكنه تعال كان ممتعا محدودا في الزمن وفي المكان كانت ضالته في تمريره إلى الذين لا يتوفرون على بدائل.
2
وفي مدريد بدائل بنفس القيمة وأعلى كثيرا. وللاكتشاف لذة تنطوي على متعة أصيلة هذه المرة ذات أثر أعمق وليست عابرة.فها هي ساحة بويرتا ديل صول تشرع ساحتها الصاخبة الضاجة على مسافة البصر. من يأتي المدينة يبدأ منها وبها بالضرورة وباللزوم. هي المركز وهناك لوحة معدنية على الأرض تذكر بها، ومنها تتفرق السبل إلى كل الجهات والجهات الفرعية لاكتشاف الحاضرة الإسبانية. حُمت وجُلت بين الاكشاك ومداخل محطات الميترو الذي يحتفل هذه السنة بمئويته، والفراشة الأفارقة السود الممسكون ببسطات السلع بخيوط تحسبا لقدوم رجال الحرس المدني،واللاتينيون بقاماتهم القصيرة وسحناتهم المعروفة يعزفون على الغيتارات، مكسيكيون وبيروفيون في الغالب، وفينزويليون يتظاهرون تصاديا مع الأوضاع السياسية هناك في الجزء الآخر من الأرض.ثم الاسبان في مشية الغادين الرائحين، والسواح الكثيرو العدد. سعة الساحة أكبر من مساحتها الصغيرة. وهذه هي الحقيقة المدريدية الأولى: ليست العبرة بالمكان، لكن بما يوحي به ويعايشه ويحتضنه. وتسترعي الانتباه حشود الصبايا المكتحلات بكل أنواع صوغ الأنوثة وإعلانها جهارا كمكون لا حلاوة للفضاء بدونه، تزيد من كثافة حضوره أحاديثهن المتسارعة المسموعة حيث الكلمات تصطك ببعضها البعض. قلت : هذا إعلان الفرح المشع. بعض ما تجود به الثقافة، السينما حتما هنا عن طريق موجة لاموفيدا الشهيرة، البنات هنا من بنات أفكار أو صور المخرج بيدروألمودفار(أو المظفر الذي أخذه عن المورو كما يسمون المغاربة هنا).
3
لكن المدينة تظل بلاطية الطابع. وليس تمثال الملك ألفونسو الثاني عشر المطل من عليائه فوق مسبح حديقة رويبن دي روتيرو من سيقول العكس. وهذا ما سيتأكد في بقية الساحات المتناثرة في مدريد. ميزتها أنها مدارات طرقية، حدائق صغيرة، وتضم أقواسا عظيمة البناء كانت أبوابا في زمن ما. باب القلعة. باب سيبيليس. ساحة الاستقلال. ساحة جمهورية الأرجنتين..الكاتب المورو لن يعثر فيها إلا على تاريخ قبلي ملكي باذخ. هي نادرة الإحالة إلى كاتب معين بخلاف ساحة إسبانيا الشاسعة حيث يقبع كما لو على عرش شامخا ، تمثال سيرفانتس بساقه العارية كما أشرت إلى ذلك آنفا ويده المبتورة يحرس بطله دون كيشوت وتابعه سانشو بانشا راكبين على بهيمتيهما تحت أنظار السياح الصينيين واليابانيين المنبهرين باكتشاف هذا الإسباني الذي قرأه الجميع في كل اللغات الحية والميتة. تمثال الشاعر الأندلسي لوركا في ساحة القديسة آنآ. وتمثال فيسنتي أليكسندري أول إسباني يحوز جائزة نوبل الأدب في ساحة شارع الملكة فيكتوريا أما الشاعر أنطونيو ماتشادو فتقبع رأسه بفخر في حديقة مدخل بناية المكتبة الوطنية الضخمة الرائعة.
4
كتبت أعلاه ما كتبت وأنا جالس في مقهى Gallacu بساحة ليكاثبي Legazpi . في حي يحمل ذات الاسم. وجدتها صدفة وأنا أبحث عن فضاء رحب غير مخجل أتناول فيه فطوري. سيكون مقهاي في الساعات الاولى للصباحات التي ستلي.فطور أندلسي مكون من خبز وطماطم مطحونة وزيت زيتون وشاي أسود. ألقي نظرات تحاول أن تخترق ما يُظن أنه سر ما يجب إيجاد مفاتيحه. لكن لا سر هنا في مدريد. أغلب الاسماء الشهيرة التي تحملها الشوارع والأفضية الخاصة هي لملوك ونبلاء وعسكريين ومستكشفين وخاصة للقديسين والقديسات، نفس الأمر بالنسبة للتماثيل الكثيرة المنبثة هنا وهناك.. على جياد أو واقفين بتحد ظاهر نحو السماء.
5
هو ماض حاضر كما في كل العواصم وكل المدن ذات التاريخ تمتح منه بعض الحضور الآخر الرمزي الذي يؤكد على أصالة ما، وتسعف في رفد السياحة بما توفر من مال. لكنها سياحة ذكية، تعلي من ثقافة البلد مع مقابل. في هذا الماضي، بعض نقط حضور المغرب أو بلد المورو كما أشارت سلفا، وقد كانت دهشة الكاتب قوية وهو يشاهد في أعلى لوحة رخامية تحمل اسم مكان، وكل اللوحات من هذا الصنف هنا رخامية زليجية كتب عليها اسم وبجواره اسم، هو بلاثا ذي موروس، والرسم المرافق هو لرجل يشبه جدي الأمازيغي الفقيه التغماوي. نفس الجلباب ونفس العمامة ونفس السحنة! كان المطر يهطل لحظتها ولم أكن أحمل مطرية، فظللت أحدق في الصورة حد البلل. لا تنسى مدريد أن التاريخ لا يجزأ مهما كان. والدليل هو وجود حي شهير يسمى حي تطوان، وقد شربت به قهوة متلمظا الكلمة التي تعني العين بالأمازيغية. نعم الماضي لا يمكن القفز على حقائقه. لم أكن في وضع نوستالجي ساذج أبحث عن بلادة اسمها الفردوس المفقود أو ماتشابه من اختلاقات شعراء الزمن المنتكس هناك في شرق مظلم. لا فقط كان ذهني يسجل وهو يعاين أفضية مدريد التي ما كان يهمني فيها هو فردوسها الحالي والذي تمنحه ليلا في مقاهيها ومراقصها وحاناتها وساحاتها. في أواخر النهار تلتقي الثقافة والفن والرقص والفرح وما لذ وطاب من شرب وأكل. بعد ليال وزيارات، أدركت ُ بأن مدريد أدركتْ بعضا مما ضاع في عُشريات سالفة.
6
وأبرز من يحدث الزائر مثلي (الذي يود أن تزدوج الزيارة لديه بالأثر المكتوب بالضرورة) عن مدريد هو الشاعر المغني خواكيم صابينا. فكما أشرت إلى ذلك، بحثت عما يسعفني للتعرف على المدينة من خلال ما أوحت به فنيا. الحظ هو الذي جعلني أقف متأملا عنوان أغنية له معروفة بدت لي تحمل قدرا ساميا : سأنزل في محطة أطوتشا Atocha . وهي أجمل محطاتها معماريا ورمزيا (عرفت حدثا إرهابيا سنة 2004). هي المدخل ويقول فيها الشاعر بأنه سيحط الرحال بها حتما ولن تغريه إقاماته العديدة في باريس ومانهاتن وبوينس أيرس. مدريد مدينته فيأتي على ذكر بلاسكيس وبيكاسو وبوتيرو، وكلهم رسامون، ثم شتاؤها وصيفها وفنادق المومسات.. مزيج من الفرح والحزن يعلنه صوت رخيم نافذ وڨيتارة روحانية الملمس دون أن تغفل قسوة الواقع. وتلك مدريد حين جلت في ليلها وتحدثت إلى بجعاتها البيض وعجائزها المتمسكات بكل رمق الحياة بالإشارات والنظرات ما دامت اللغة القشتالية غريبة عني.
7
لكن لليل لغة واحدة كونية يفهمها الجميع ، بدءا من الشابة المرحة في بهو استقبال الفندق الصغير المقام في عمارة بالقرب من صول، هو بنسيون أو أوستال كما يسمونه هنا. وهي تعد بالمئات، وفي متناول الكل. مدريد لا ترد أحدا، كل حسب جيبه. وإذن في انتظار الليل، لك أن تجول في ناحية ما بلا دليل ولا وجهة محددة غير وجهة الفجائي والمدهش والجديد، محملا بزاد أغنية صابينا والرغبة المتعددة المزركشة بكل الأطياف، وبجل ما طرق ناظريك هنا وهناك. وحين يحل المساء ارتكن طاولة أو كونطوارا وادفع بالتي هي أحسن.اختار مثلا حانة إلريسبيروEl respiro ويمنحني غوغل مقابلها الذي هو فترة الاستراحة لكن أجد فيها نوعا من استرجاع النفس بعد لأي تجوال. توجد في لاس أنفنتاس وهو زقاق يتقاطع وزقاق فوينكارالالمرتاد كثيرا من طرف السابلة. هناك ابدأ ليلك. فهناك شيء اسمه الطاپا في مدريد كما في عموم إسبانيا. كل مشروب ترافقه شريطة أن يكون باردا، نبيذا أو جعة أو غازيا أو عصيرا، لأن الليل هنا حار ولو في عز الشتاء. في حي لاتينا وفي حي شويكة وفي لاس ليتراس وفي زقاق فوينكارال وفي الݣرانبيا Gran Via الشارع الذي يريد أن يشبه برودواي.
لا يمكن أن تنام باكرا في مدريد. هذي هي حقيقة المدينة الثانية.


الكاتب : بقلم مبارك حسني

  

بتاريخ : 28/09/2019